استعرضنا في المقالة السابقة مظاهر السقوط الأخلاقي للإدارة الغربية، وهذا لا يعني تماما أن الإدارة الغربية ليست لديها إيجابيات بل على العكس من ذلك فلديها إيجابيات ومن أهمها قرارها محاربة الفاشية والديكتاتورية والشيوعية، فلنا أن نتصور أن مثل ستالين الذي قتل 20 مليونا من شعبه ليعزز موقع الشيوعية يحكم العالم، أو هتلر الذي قسم البشرية إلى طبقات وجعل الشعب الآري على رأسها أو الفاشية اليابانية التي استعبدت الشعوب الآسيوية وجعلتهم خدما وعبيدا لجيوشها، وهكذا فالإنسانية لا شك مدينة لها بمحاربة هذه الأنماط من الإدارة الفاشية والديكتاتورية، وتعزيزها للنظم الديموقراطية والحريات في العالم، ولكن لابد لنا من أن نقر بالأخطاء الإدارية السابقة، وهذا ليس من عندي بل من عند الغرب، وعلى هذا نشأ علم الإدارة بالأخلاق وأصبحت مادة أساسية تدرس في الجامعات الأميركية، وفي دراستي لماجستير الادارة، كان من ضمن الجدول الدراسي مادة أساسية اسمها social ethics in business، وكان يدرسنا دكتور قصته جميلة أنقلها للقارئ الكريم لأنه كان أساسا قسيسا ولكن كون الرهبانية مضادة للفطرة كما قال الله عز وجل (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)، وحين قرر ترك الرهبنة والاتجاه إلى الحياة الطبيعية الفطرية، أول فتاة واجهها في السوبر ماركت قال لها: تتزوجينني؟ فقبلت الزواج منه، واتجه لدراسة الإدارة، وبعد ذلك التدريس ولكنه احتفظ بقواعده الأخلاقية فكان يدرس مادة الإدارة بالأخلاق، وكان معجبا جدا بالطلبة المسلمين، ويقول ان المسلمين العرب لديهم قاعدة أخلاقية تحكم قراراتهم الإدارية أفضل منا ولذلك كان يهتم بالأبحاث والأوراق التي نكتبها، وفي مرة طلب منا أن نكتب عن اختلاف القيم من ثقافة إلى ثقافة، فكان أن كتبت مقالا مهما في اختلاف القيم في النظر للأمور وضربت مثلا بالأهرام، فقلت انكم الغربيين تنظرون للأهرام بصورة شديدة الإعجاب من الناحية الفنية والإعجاز في بنائها ولكننا نحن المسلمين ننظر إليها من ناحية أخرى أيضا وهي أن هذه الأهرام عبارة عن قبور وهذه القبور لبنائها تم استعباد مئات الآلاف من البشر، ومات الآلاف، وسخرت أموال الدولة وإمكانياتها على ماذا...؟ لبناء قبر فالقيمة النهائية طبعا لا تستحق هذا الإعجاب بل هناك نظرة أخرى لها، فما كان منه إلا أن طلب أن تلقى هذه الورقة كورقة رئيسية في الفصل كمثال صارخ على أثر القيم في النظرة للأمور وقال بالحرف الواحد: للأسف نحن ننظر كالأغبياء إلى هذه الأهرام ولكن لا نفكر في القيمة النهائية لها، وطلب بعد ذلك أن نهديه قرآن، وفعلا أهديناه ترجمة القرآن باللغة الإنجليزية، وهذا فقط لنبين للقارئ أن تدريس علم الإدارة بالأخلاق أصبح علما أساسيا في الإدارة الغربية وفي المناهج الإدارية بالجامعات لأهمية دوره في إصلاح العمل الإداري، ولا نطيل على القارئ هنا.. ما هي النظريات المعاصرة في الإدارة بالأخلاق؟ وان شاء الله سنوضحها لاحقا، ولكن ننتقل إلى الإدارة الكويتية، ونقسمها إلى قسمين:
أولا ـ القواعد الأخلاقية للإدارة الكويتية القديمة
لقد سطر أجدادنا وآباؤنا أفضل المثل بالعمل التجاري والاقتصادي في غابر الزمان حيث الكويت لم يكن بها أي إمكانيات طبيعية ومادية ظاهرة، وكان البحر والصحراء هما طريقهم الأمثل للعمل التجاري والاقتصادي، فكان أن خاضوا غمار البحر وأهواله في الغوص على اللؤلؤ وفي التجارة بين الخليج وعدن وأفريقيا والهند، فعملوا روابط تجارية رائعة بالسفن الشراعية، وبلغ الأسطول الكويتي آنذاك 800 سفينة للغوص والتجارة، فكان الصيف هو موسم الغوص، والشتاء موسم التجارة والسفر فكانوا مضرب المثل في القوة والعزيمة والقدرة على مواجهة الصعاب، ولم يذهب الكويتيون على فقرهم للعمل عند الدول الأخرى بل من خلال بلادهم اشتغلوا بالظروف والإمكانيات المتاحة، ولذلك اشتهرت الكويت آنذاك بالرواج الاقتصادي وقامت كثير من العوائل والقبائل بالهجرة إليها من نجد والعراق والسواحل الشرقية في الخليج، ولقد تميز العمل الاقتصادي في ذلك الوقت بمجموعة من القواعد الأخلاقية لدى التجار الكويتيين ساعدتهم على النجاح ومن أهمها:
الأمانة والقوة
لقد اشتهر التجار الكويتيون في ذلك الوقت بالقوة والأمانة، كما ذكر الله سبحانه وتعالى على لسان ابنة شعيب عليه السلام عن موسى عليه السلام (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) فهاتان الصفتان كانتا ملازمتين لهم ولذلك كان يثق فيهم الآخرون في التعامل معهم، ويروى عن أحد التجار الكويتيين كان يحتفظ للبدو بأماناتهم المالية لديه أنه جاءه أحدهم فقال: وين أمانتي التي عطيتك إياها؟ ولم يعرفه التاجر ولا يوجد لديه شيء، فما كان أن فتح التجوري ـ الخزنة ـ وقال له كم أمانتك؟ وأعطاها إياه، وبعد يوم تذكر البدوي أن أمانته لم تكن عند هذا التاجر بل عند تاجر آخر فرجع إليه وقال له: ليش عطيتني وأمانتي مو عندك، فقال: خفت أن يقول الناس اني خوان للأمانات، وأيضا يروى العبدالمغني في كتابه الرائع «الاقتصاد الكويتي القديم» أن لويدز شركة التأمين البريطانية المعروفة إذا وضعت التأمين على السفن الكويتية مثلا 80 روبية فإنها تضع على غيرها 120 روبية لما تلمسه من الأمانة والقوة في التجار والنواخذة الكويتيين، والقصص هنا لا تنتهي وإن شاء الله يأتي يوم نخصص لها مقالا خاصا.
الصدق والوفاء بالعهود
وهذه من الصفات التي عرفت بها الإدارة الكويتية القديمة، فالتاجر الكويتي عند كلمته ووفى لعهوده، أحد التجار الكويتيين العاملين في الهند في بداية عمله بالتجارة كان لا يملك الكثير وجاءه أحد التجار الهنود فقال له لدي بضاعة أقمشة أريد أن أبيعها بالكويت، فعندما ذهب معه التاجر الكويتي ورأى هذه البضاعة ـ كما يروي لي ابنه ذلك ـ قال فز قلبي عليها من حلاتها، وعندما عرض عليه التاجر الهندي السعر قال ما أقدر على قيمتها، فما كان من التاجر الهندي إلا أن قال له: خذ البضاعة وبيعها بالكويت وبعدين عطني أموالي، فإحنا نثق فيكم التجار الكويتيين، بالفعل قام هذا التاجر الكويتي ببيعها بالكويت وأعطى التاجر الهندي حقوقه المالية، فكانت هذه قاعدة انطلاقته التجارية إلى يومنا هذا له ولأولاده، وهذا بسبب الصدق والوفاء بالعهود، فيا ليت شعري ليت تجار اليوم يتعظون بهذه الحادثة.
القوة والعمل الجاد
لقد كانوا يتصفون بالقوة والجدية في العمل، لقد كنت في رحلة سياحية الصيف الماضي إلى بوكيت وماليزيا مع أسرتي فشاهدت بأم عيني أهوال البحر الهندي وأمواجه العاتية فقلت رحمكم الله يا أجدادنا وآباءنا، كيف كنتم تمخرون عباب هذه الأهوال فما يفعل هذا إلا أناس أقوياء لديهم الشجاعة والقوة والقدرة على مواجهة الأهوال، يروى الشيخ أحمد القطان ـ حفظه الله ـ على لسان النوخذة عيسى العثمان عن إحدى رحلاته العجيبة في السفر أنه جاءته شحنة خيول عربية يشحنها من العراق ـ البصرة، إلى بومباي ـ الهند، فيقول بعد أن وضعنا الخيول في الخن ـ مخزن السفينة ـ ركب معنا التاجر حيث وضع له الخدم فرشه الفاخر، وهو يشرب الأرجيلة ويشوي له اللحم ـ ولم يكن الكويتيون معتادين على هذا الترف – فجلس فضحك على البحارة، وقال: شنو ذولا هذولا زرازير، حيث كان يتصف البحارة في ذلك الوقت بالضعف الجسدي ولكنهم كانوا أقوياء، فقال النوخذة عيسى العثمان في نفسه: زرازير أيه راح نشوف بعدين منهو الزرازير، وهم في الطريق ضربت عاصفة السفينة فما كان إلا أن أخذ البحارة أوضاعهم واحدا فوق الشراع وآخر هناك وهكذا.. والموج يضرب السفينة بقوة، والتاجر يذهب من آخر السفينة إلى أولها لا يستطيع التماسك أو الثبوت، فخاف عليه النوخذة عيسى العثمان، فقال للبحارة: حطوه بالخن مع الخيول حتى نحافظ على سلامته، وبعد أن وصلت السفينة إلى بومباي ووصلت الشحنة قال النوخذة للتاجر: ها ترجع معانا، فقال لا لا بروح بالسفينة التجارية، وهنا قال النوخذة: الحين بين منو الزرازير، وطبعا هذه القصة تدل على القوة والجلد والعزيمة والقدرة على مواجهة الصعاب.
(يتبع)