تناولنا في المقال السابق القواعد الأخلاقية في الإدارة الكويتية القديمة وكيف أن هذه القواعد الأخلاقية أدت إلى الازدهار الاقتصادي بالرغم من محدودية الإمكانيات، ونكمل في هذه المقالة موضوعنا حول الإدارة القديمة ومن ثم نعرج على القواعد الأخلاقية في الإدارة الكويتية الحديثة:
4 ـ الإقدام والطموح والمثابرة: لقد كان لديهم طموح لا محدود وقدرة على تحقيق الأهداف، ولقد كان جد والدي رحمه الله ـ عبدالعزيز بن ياقوت ـ وأخوه عمر بن ياقوت لديهما بومان للغوص وكانا نواخذة غوص ولقد اشتهرا بعثورهما على أكبر دانة في تاريخ الكويت ـ الدانة لغير الكويتي هي اللؤلؤة الكبيرة ـ فتصور الغوص والعمل الجاد للعثور على اللؤلؤ لم يوصلهما إلى اليأس بل للطموح والمثابرة فعثرا على هذه الدانة الثمينة والتي يصفها والدي من كبر حجمها بـ «ان اليد ما تسكر عليها»، فعلا لم يستطع تاجر بالكويت شراءها وبيعت في الإحساء في جزيرة دارين لأحد التجار بقيمة 80 ألف روبية وهي في زماننا تعني الملايين. وأيضا لنا مثل في الشيخ مبارك الصباح رحمه الله في طموحه في تكوين دولة عصرية وقوية فكان له قراره التاريخي والاستراتيجي في الاتفاق مع أكبر دولة وأكثرها تطورا آنذاك وهي بريطانيا في الشراكة السياسية والاقتصادية فكان قرارا ناجحا وطموحا بكل المقاييس.
5 ـ عزة النفس والاستقلالية: لقد ذكرنا في مقدمة المقالة ان الكويتيين برغم فقرهم وعدم وجود إمكانيات طبيعية متاحة في ذلك الوقت إلا أنهم لم يذهبوا للعمل لدى الآخرين بل استخدموا الإمكانات المتاحة وعملوا على تطوير بلدهم وبناء اقتصاد قوي، ولهذا فإن الكويت كانت تتمتع بالاستقلالية فكان الاقتصاد الكويتي يضم الحرفي والعامل والتاجر والسياسي والمعلم والطبيب والزراع ومربي الثروة الحيوانية وهكذا، اقتصاد متكامل من جميع النواحي ضمن لهذا البلد بالرغم من بدائية الإمكانيات المتاحة الاستقلالية وبناء اقتصاد كويتي قديم زاهر ومنتج كما يصفه أغلب المؤرخين الأجانب الذين زاروا الكويت حسب مقاييس ذلك، وأيضا كان الكويتي يتمتع بعزة النفس حيث كان الكويتي يعتصر من الجوع فيقال له «تفضل معانا على الغداء فيقول لا، الحمد لله شبعان» وأيضا المرأة المدبرة كما يصفونها إذا سافر عنها زوجها للغوص مدة 3 شهور أو في السفر الشتوي للتجارة يعطيها مصروفها فكانت تذهب إلى السوق وتشتري الصخول ـ الماعز ـ والدجاج، وماكينة خياطة وتقوم بالاستفادة من حليب الماعز لإطعام أولادها والباقي تعمله لبنا وتبيعه، وأيضا الحال للدجاج والبيض، وتعمل بعض الملابس وتبيعها وتربي أولادها على العزة والاستقلالية وعدم الطلب من الآخرين، وعندما يرجع الزوج من السفر يرى أولاده في أحسن حال فيحمد الله على حفظه وصونه لأسرته فتعطيه فلوسه التي أعطاها إياها في بداية سفره فيقوم بتقبيلها على رأسها لحسن التدبير والإدارة.
6 ـ التضحية لصالح المجتمع: الأسرة الواحدة كان شعار يرفع قولا وفعلا فالبحار يسافر بالأشهر ويترك أسرته وراءه وكان يعلم أنها بالحفظ والصون من كافة أفراد المجتمع وأنها متى احتاجت فهناك من يسد حاجتها الى حين رجوع زوجها وأما صفة التعاون فحدث ولا حرج فإذا طبعت ـ غرقت ـ سفينة تاجر فالجميع يهب للمساعدة ويكفي أن نعلم أن الدولة لم تكن لها موارد آنذاك إلا من خلال مساهمة أبنائها المالية وفي حالة الأزمات يهب التجار بأموالهم لمساعدة المجتمع وهكذا الجمعيات الأهلية والمستوصفات من مساهمات الأهالي وحتى المجلس البلدي في بداية إنشائه كأول مؤسسة إدارية حديثة بالكويت كان أعضاؤه لا يأخذون رواتب نظير أعمالهم وهكذا الجميع يضحي ويعمل لصالح تقدم وازدهار المجتمع.
مظاهر الأزمة الأخلاقية في الإدارة الكويتية الحديثة
بداية دخول الثروة النفطية على الكويت في الخمسينيات تلقاها جيل الإدارة الكويتية القديمة الذي نجح في بناء الكويت على قواعد تنموية رائعة أبهرت العالم واحتلت الكويت أعلى قائمة دول الخليج وتميزت في كل شيء حتى سميت بدرة وجوهرة الخليج، ولكن هذا الجيل لم يستمر وجاءت بعده إدارة كويتية ضيعت مكاسب الجيل السابق، ولم تعد هذه الإدارة تتميز بالقواعد الأخلاقية للجيل الإداري السابق ولذلك انحدرت الكويت في التنمية والازدهار والإبداع الذي تميزت به، وقد تكون هناك عوامل قاهرة أخرى مثل الحروب التي مرت علينا، ولكن تظل هناك أمور يجب رصدها عن أخلاق الإدارة الحديثة في الكويت والعمل على معالجتها:
1 ـ الإغراق في الماديات: لعل من أهم مظاهر الإدارة المعاصرة هو الإغراق في الماديات، والعمل على أن مظاهرها تعني النجاح وليس الإبداع والتميز والإنتاج، وهذا أدى إلى خلط مفاهيم العمل الإداري، ونشأت عندنا أقوال واتجاهات ما كانت لتحدث لدى الجيل الأول، مثل «من صادها عشى عياله»، «اتخذ ما اتخذ» و«إحنا ما عندنا مقومات دولة». وهكذا مقولات عن الجمع المادي قدر الإمكان والاستفادة من الثروة الحالية بغض النظر عن الشرعية القانونية والشرعية الإدارية، وهذا للأسف سبب في انقلاب المفاهيم والقواعد الأخلاقية للعمل الإداري الكويتي المعاصر، وجعله يتجه إلى نفس اتجاه الرأسمالية الغربية والشخص الاقتصادي الذي يجمع الأموال وشعاره الغاية تبرر الوسيلة.
2 ـ الاحتكار: لعل من أسوأ مظاهر الإدارة المعاصرة لدينا هو الاحتكار ومنع المنافسة واستغلال حاجات الناس بأبشع الصور، وكانت بداية الاحتكار عندما سن قانون في عهد الشيخ عبدالله السالم رحمه الله يمنع دخول الماركات والمنتجات إلا من خلال وكيل كويتي، وهذا أدى للأسف إلى تجميع الوكالات في أيدي قلة من المجتمع من خلال غرفة التجارة التي كانت توزع هذه الوكالات على قلة محدودة جدا في المجتمع الكويتي، ولقد كتب جاسم السعدون الاقتصادي المعروف بحثا في مجلة دراسات الخليج في بداية عمله ودراساته الاقتصادية حول أسباب تركز الثروة في أيدي مجموعة قليلة في المجتمع وهي انه أبان عهد دخول الثروة النفطية كان المتعلمون قلة قليلة في المجتمع، هؤلاء المتعلمون استطاعوا أن يحصلوا على النصيب الأكبر من التثمينات بسبب معرفتهم لأهم الأماكن التي ستثمن ومن ثم شرائها، وأيضا احتكار الوكالات التجارية وتوزيعها بينهم، وأيضا هيمنتهم على القرار الحكومي. وبعد عدة عقود من نشر هذا المقال قام مجلس الأمة عام 2007 بتشريع قانون المنافسة للحد من الاحتكار ولكن للأسف القانون مازال قابعا في الأدراج ولم يطبقه أحد ومازال المواطن الكويتي يعاني من جشع واستغلال المحتكرين؟
3 ـ البعد عن المساهمة في تنمية المجتمع: في الكويت لا يوجد نظام ضرائب ولذلك لا يساهم القطاع الخاص بدوره في تنمية المجتمع، وأيضا في المجال التطوعي المساهمات محدودة جدا في القطاع الخاص، فعندما كنت طالبا في أميركا، بجامعة usc بجنوب كاليفورنيا وهي من أغنى الجامعات كانت استثماراتها في جنوب أفريقيا في 1985 تقدر بـ 7 مليارات دولار، وتمتلك جزيرة في كاليفورنيا وهكذا، ومع ذلك تجد أن 70% من مبانيها عبارة عن تبرعات من القطاع الخاص، ولك عزيزي القارئ أن تمر على جامعة الكويت لترى تبرعات ومساهمات القطاع الخاص فهي مثار للسخرية والضحك، وأيضا مدارسنا في المناطق وهكذا، ولو رجعنا إلى الإدارة الكويتية القديمة لوجدنا أن أغلب المرافق العامة عبارة عن تبرعات من التجار مثل المستشفى الأميري الذي تبرع بأرضه آل الصقر الكرام.
4 ـ الفساد: لو أحيا الله أحد أجدادنا من القبر ليرى حجم الفساد في الكويت واحتلال الكويت للمرتبة 65 عالميا في مؤشرات الفساد لمات من القهر مرة أخرى على ما بناه الجيل الأول من الأمانة والصدق والسمعة العالية للكويت، وللأسف أن مؤشرات الفساد تزداد بالكويت سنويا وتحتل مرتبة متقدمة فيه حسب المؤشرات الدولية للشفافية ومنها منظمة الشفافية العالمية، لقد أصبح المشرعون في الكويت في حيرة من أمرهم في كيفية مكافحة الفساد، ولنا أن نتصور الكويت هذه الدولة الصغيرة تتجه إلى إنشاء هيئة عامة لمكافحة الفساد؟ طبعا هذا ضحك على الذقون فنحن لا نحتاج هيئة ولا هم يحزنون فمجلس الأمة وديوان المحاسبة فيهما البركة وأماكن الفساد معروفة والمطلوب هو تطبيق القوانين ومكافحة الفساد والمفسدين.
والله ولي التوفيق،
(يتبع)
بقلم: د.وليد عبد الوهاب الحداد
[email protected]