[email protected]
كانت التوابل هي الهدف الأول للرحلات البحرية الشاقة الطويلة التي يقوم بها البحارة الغربيون إلى الشرق، حيث كان الأوربيون في القرون الوسطى يجهلون أنواع البهارات والتوابل، وتبين لهم أن أنواع البهارات من القرفة «الدارسين» والزنجبيل والقرنفل وجوزة الطيب والليمون الحامض وغيرها من التوابل مما تحفل به أرض جزر الملايو والهند، تكفي لإكساب الطعام نكهة لذيذة لا عهد لهم بها من قبل، وكان ثمة هدف آخر لتلك الرحلات هو الحصول بجانب تلك التوابل اللازمة للطعام على أنواع العطور العربية الجديدة من المسك والعنبر وماء الورد وأنواع كثيرة من البخور وخشب الصندل، وكذلك حاجة الصيادلة الأوربيين إلى العقاقير الهندية مثل الكافور والصمغ وغيرهما، وتكتب على الأدوية عبارة «وارد الهند» أو «وارد بلاد العرب»، وكانت تلك البضائع يشتريها التاجر العربي بسعر زهيد الثمن وعند بيعها لنفسه يربح أرباحا طائلة نتيجة الجهد في عملية نقل البضائع والتكلفة المالية والمشقة وصعوبات النقل وأخطاره، وهو ما كان له الأثر الكبير في رفع أسعاره ثم يأتي دور التاجر الأوربي الذي ينقلها عبر مضيق هرمز ثم الخليج العربي ثم عبر صحراء بادية الشام بواسطة الجمال المحملة بأكياس البهارات ثم إلى دمشق وميناء بيروت وما يكابدونه من المشقة والتعب ومن لصوص الصحراء، فالمسافة الشاسعة بين الغرب والشرق كان الإقدام على قطعها ضربا من المغامرة لكثرة العقبات والأهوال التي كانت تعترض السفن والقوافل البرية في الطريق في وقت تفشت فيه الحروب وأعمال القرصنة، ولعل هذا ما حفز الغرب على العمل للتخلص من تلك الرقابة الشرقية لإيجاد طرق بديلة للوصول إلى بلاد البهارات والتوابل، ويكون حرا ومستقلا، لذا سعت البرتغال الى البحث عن منفذ في سبيل استكشاف مسالك بحرية جديدة لنشاطها البحري، ونظرا لإشرافها على المحيط الأطلسي، حيث ساد الاعتقاد طبقا لنظرية بطليموس بأن المحيط الأطلسي خضم من الماء لا نهاية له ولا سبيل لعبوره، والطريق إلى الجنوب مغلقة لتعذر طواف السفن حول الأصقاع الممتدة على طول السواحل الأفريقية الخالية من السكان التي تمتد حتى القطب الجنوبي دون أن يكون لها أي منفذ لمرور السفن إلا أن أميرا عبقريا من أمراء البرتغال شك في صحة نظرية بطليموس وزاد في شكه أن أمواج المحيط الأطلسي تحمل أحيانا من الغرب إلى سواحل البرتغال قطعا غريبة من الخشب، فرأي أنها لابد أن تكون آتية من بلاد مجهولة لم تستكشف بعد، ولاح له أن أفريقيا قد تكون آهلة بالسكان، وقد يمكن عن طريقها بلوغ المحيط الهندي والحصول على سلعها التي تدر الأرباح، وعلى أساس هذه الفكرة وقف الأمير هنريك ابن ملك البرتغال كل جهوده لاستكشاف ذلك الطريق الجديد إلى الهند عبر المحيط الأطلسي، وأطلق التاريخ على هذا الأمير لقب «الملاح» مع أنه لم يركب البحر إلا مرة واحدة في حملة عسكرية.
ولا يدرى أحد كيف نبتت هذه الفكرة العجيبة في ذهن ذلك الأمير المقامر الجريء، ولا كيف أعتقد عكس ما كان يدعيه علماء الجغرافيا في ذلك العهد من أن أفريقيا ملتصقة بالقطب الجنوبي ولا يمكن الطواف حولها؟ ففي سنة 1471م وصلت سفن البرتغال إلى خط الاستواء وفي سنة 1486م تحقق حلم الأمير هنريك فوصل البرتغالي برتولوميو دياز إلى طريق أفريقيا الجنوبي رأس الرجاء الصالح الذي أطلق عليها قبلا «رأس الزوابع»، حيث مزقت الرياح والعواصف أشرعته وواصل دياز طريقه حتى بلغ الساحل الشرقي الأفريقي ثم عاد دياز إلى البرتغال بعد أن ثار عليه رجاله، وللمرة الأولى وضحت معالم أفريقيا الجغرافية وثبت أن بطليموس غير صادق، فإن هناك طريقا بحريا يؤدي إلى الهند، وهكذا تحقق حلم الأمير هنريك الذي داعبه في حياته بعد موته بست وعشرين سنة، وتطلع العالم بعين الدهشة لهذه الدولة الصغيرة (البرتغال) التي أصبحت أول دولة بحرية في العالم وكسب بنشاطه البحري أقاليم جديدة، بل قارات كاملة، وأدركت أوروبا أن الاكتشافات الجديدة ستغير معالم الكون أكثر مما فعلت الحروب والمدافع، وأن عهد العصور الوسطي قد ولى وبدأ عصر الاكتشافات الجغرافية.