في 10 أغسطس سنة 1519م أي بعد سنة وخمسة أشهر منذ أن وقع ماجلان مع ملك اسبانيا شارلكان عقد الاتفاق أقلعت السفن من مرفأ اشبيلية الاسبانية بعد أن ركع ماجلان على ركبته في الكنيسة وأقسم يمين الولاء للملك وحوله رفاقه جميعا البالغ عددهم مائتين وخمسين رجلا وهم مجموعة متباينة من البحارة والمغامرين يرمقون اليوم قائدهم ماجلان في إجلال وإكبار، وبعد أن فحص ماجلان سفنه للمرة الأخيرة وطاف بها قبل أن تمخر عباب المحيط بعد أن تم تجديد وصيانة السفن من السطح إلى القاع، وهذه السفن ذات شكل مستدير وهي ثقيلة وضخمة ولكنها واسعة عميقة وأشرف ماجلان على السفن بدقة متناهية وكان يتنقل من سفينة إلى أخرى موجها انتباهه على الأخص إلى شحنه المؤن ودقته في إعداد التفاصيل لرحلة من أعجب رحلات التاريخ وتدلنا على مدى عبقرية ماجلان وحزمه وصبره وهدوئه وصفاء ذهنه وقدرته على التنبؤ، وماجلان بحار مجرب وهو يدرك أهمية الاستعداد لرحلة طويلة في أصقاع مجهولة وكان يدرك أن أي خطأ أو نسيان بسبب الإهمال عند الرحيل لا يمكن أن يعوض وخطأ واحد في الحساب قد يؤدي إلى فشل الرحلة ولهذا كان هدف التفتيش الأخير الوثوق من أن مواد التموين على ما يرام لخمس سفن ومائتين وخمسين رجلا في رحلة لم يعرف مدتها فخير له أن يحمل فيها قدرا يفيض عن الحاجة من أن يحمل قدرا لا يفي بها.
فأساس الغذاء في البحر الخبز المجفف فقدر ماجلان أن كمية الخبز المجفف تكفي لمدة سنتين وتكدس مؤن الغذاء في بطون السفن الخمس فبجانب أكياس الدقيق واللوبيا والعدس والأرز والحبوب الأخرى واللحوم المملحة والسردين والجبن والثوم والبصل والعسل والزبيب واللوز والسكر والخل والخردل وكذلك قطع الغيار للسفن حينما تفقد قدرتها على الملاحة من الحبال والحديد والرصاص وجذوع الأشجار والقماش فالرياح تمزق القلوع وتلوي الحبال وتقطعها ومياه البحر تأكل الخشب وتفسد الحديد والشمس تحرق الدهان والظلام يستهلك قدرا من الزيت والشمع وكميات من الأدوية والعقاقير والأدوات الجراحية والأدوات الخاصة بالملاحة والفلك وتقدير المسافات ووضع سلاسل لتقييد العصاة المتمردين من البحارة ولم ينس الآلات الموسيقية لتسلية رجال الحملة في الطريق.
والسفن بمن عليها من رجال لا ترسل إلى بعيد من أجل النزهة ولكن من أجل أن تحمل معها المعلومات الجغرافية وتعود بالربح المادي على الذين ساهموا في نفقات تجهيزها فلا بد أن تأخذ معها طائفة من السلع تتيسر المقايضة بها على البضائع التي عقدت الآمال على جلبها من الأقطار النائية كالتوابل وغيرها وماجلان يعرف بعد رحلاته السابقة ما يعجب سكان الجزر الفطريين وهناك شيئان لهما دفع شديد هما المرايا التي يرى فيها سكان الجزر صورهم للمرة الأولى في حياتهم والأجراس الصغيرة التي يلهو بها الأطفال وعلى هذا الاعتبار وضع ماجلان كميات كبيرة من المرايات والأجراس ومن السكاكين والمقصات والأساور النحاسية والأمشاط والحلي الزائفة وقطع الزجاج والثياب، وكذلك من ضمن بحارة السفن المؤرخ الشاب الإيطالي الهادي المتواضع «أنطونيو بيجافيتا» إذ لو لم يوجد من يؤرخ أو يروي لاندثرت أعظم الأعمال وبيجافيتا هو الذي نقل ووثق ذلك العمل العظيم الذي قام به ماجلان وبيجافيتا معجب بأدب الرحلات وسرد ذكريات الرحلات والأسفار، وقد كان دقيقا في وصفه لرحلة ماجلان ودون في مذكراته ما سمعه من كلمات سكان إقليم بتاجونيا الواقعة بين جمهوريتي شيلي والأرجنتين في أميركا الجنوبية وإليه يرجع الفضل في وضع أسس أول قاموس للغات الأميركية ومن مفاخر بيجافيتا أن شكسبير استعان بالصفحات التي كتبها بيجافيتا يصف ثورة البحر وهياجه فجعلها شكسبير مشهدا في مسرحيته الشهيرة «العاصفة»، وهنا أدى ماجلان آخر واجباته قبل أن يغادر الميناء فقد أزفت ساعة الرحيل وها هي زوجته تحمل بين ذراعيها طفله وتودعه باكية ثم يصعد ماجلان مع رجاله مسرعا إلى السفينة وعند الفجر في يوم الثلاثاء 20 سبتمبر سنة 1519م الذي سيصبح من الأيام التاريخية الخالدة رفعت السفن مراسيها ونشرت في الفضاء أشرعتها وأطلقت المدافع تحية للبر الذي يبتعد الآن ويختفي.
[email protected]