من رحم الكويت ومن جذورها الراسخة، ومن عمق أعماق أرضها الطيبة، ومن أصالة ترابها الطاهر، ومن نقاء برها وصفاء بحرها، كان هذا الرجل.. رجل ليس كمثله كثير من الرجال بل والرجالات أيضا.. فارس يشبه نبلاء العصور القديمة... شهم تطل النخوة من عينيه ويسيل الكرم من بين يديه. كان عطاؤه كله خيرا وكان خيره كله عطاء. كان كالشجرة المثمرة أصلها ثابت وفرعها في السماء وثمارها توزع الخير على كل من حولها قريبين وبعيدين في عفوية صادقة وتلقائية فريدة.
أنا لا أرثيه ولا أمدحه ولا أنافقه ولا أجامله. ولكنني أقرر حقيقة يعرفها ويعيها ويدركها كل من شرف بالقرب منه في بعض المواقف وفي كثير من المواضع وفي العديد من المواقع.
كان شجاعا في الرأي، صلبا في المواقف، عنيدا في الحق، اذا اتخذ قرارا صمم عليه واذا ارتأى موقفا تمسك به، واذا ابتعد أو انتهج أو ابتدأ مشروعا أصر على أن ينفذه وعلى ان يتمه وعلى أن يتقنه مهما كانت الصعاب وأيا كانت العقبات.
كان يجمع في شخصه كل خصال الرعيل الاول، وكان يحتوي في شخصيته كل صفات جيل الرواد الذين شاركوا بالفكر والجهد والمؤازرة في تعميق أساسات الكويت الحديثة في كثير من المجالات. كان يجمع في فكره أصالة الماضي وحداثة الحاضر وطموحات المستقبل.
كان وكان وكان ومهما كان ومهما كنا فلن نستطيع أن نوفيه حقه من العطاء وحقوقه علينا من الوفاء، ولن تتمكن الكلمات على صدقها ولا الالفاظ على دلالاتها من أن تعبر عن مكانه في القلوب وعن مكانته في النفوس حبا وتقديرا واحتراما وإعزازا وإكبارا وإكراما وعرفانا.
كان حب الكويت يسري في دمه نابعا من القلب والوجدان، وكان التفاني في الاخلاص لأهل الكويت جميعا يكمن في أعماقه ويمتزج وينصهر في كل أفعاله. وكان التعبير الذي يحبه ويدعونا الى استخدامه في خطابنا الاعلامي في «الأنباء» هو «أهل الديرة».
كان يرى في هذا التعبير أصالة الماضي وبساطته في آن واحد. كان يرى في كلمة «الأهل» دفء المحبة والتعاطف والتكافل والتكاتف، وكان يستشعر في كلمة «الديرة» وحدة البلاد وتوحد العباد وتلاحم الجميع في كيان واحد يستمد قوته من بساطة أبنائه ومصداقية ترابطهم وارتباطهم والتفافهم حول وطنهم حبا وحرصا وولاء وانتماء.
استباق الزمن
وإذا كان الاقتصاد يمثل علامة بارزة في مسيرة عطائه باعتباره أحد رموز النهضة العمرانية الحديثة للكويت، فإن دوره الحقيقي في دعم هذا الاقتصاد ونموه وتطوره لم يكن يكمن فقط في مشروعاته ومبادراته الطموحة، بقدر ما يتمثل في أنه كان يمتلك موهبة فذة في استباق التطور، والابتعاد عن الأساليب التقليدية اعتمادا على الابداع والابتكار. كان يحاول ان يبدأ في مشاريعه في الكويت من حيث انتهى الآخرون. لذلك كانت مبادرته في تأسيس البنك العقاري خطوة على طريق دعم وتمويل سوق العقار في الكويت باعتباره ركيزة العمران ومحور الإعمار. وكانت «لؤلؤة المرزوق» على سبيل المثال استباقا لنوع راق ومتجدد من الاسكان سرعان ما اتسع وتكرر وتطور ليشمل حاليا كل أنحاء الكويت. وكانت أسواق الكويت ومواقف السيارات التي بدأ مبكرا في إنشائها علامة أخرى على النمو والتطور العمراني والعقاري. وكان تفكيره وتخطيطه في أواخر الثمانينيات لمشاريع «لآلئ الكويت» قفزة حضارية في الاتجاه الى البحر بكل شواطئه لتمتد إليه يد العمران المتجدد والمتطور والمتميز. والامثلة كثيرة وعديدة، لا يهم ان نعددها ونتابعها كما وعددا، لكن الاهم انها تمثل منهجا في التفكير الاقتصادي يرتكز على طموح التخطيط، وجرأة التنفيذ، والمبادرة بفتح الابواب المغلقة سعيا الى الافكار الخلاقة والمبدعة التي لا تعرف الحواجز ولا تعترف بالصعاب.
الحديث عنه لا ينقطع ولا ينتهي الا ليبدأ من جديد، لكن الصعوبة هنا هي من أين نبدأ والى اين ننتهي خاصة ان ما بين البداية والنهاية مواقف كثيرة، ومشاهد عديدة، ورحلة طويلة، ومسيرة حافلة اشبه بنهر الخير وبحر العطاء والسخاء.
اللقاء الأول
لا اذكر متى كان لقائي الاول مع الراحل الكبير، كل ما اذكره انني التحقت بالعمل في جريدة «الأنباء» في اغسطس عام 1982 سكرتيرا للتحرير ثم مديرا للتحرير ثم نائبا لرئيس التحرير، كنت اسمع الكثير عنه وعن مكانه ومكانته وهيبته وقوة شخصيته، وكنت اتوق الى معرفته دون ان يتحقق ذلك في سنواتي الاولى في «الأنباء»، كنت اتلقى توجيهاته في احيان متباعدة عبر القيادات الصحافية والادارية في «الأنباء» لكن لم يتسن لي ان التقيه مباشرة سواء في لقاء عمل او لقاء شخصي، وعندما احاول ان اعود بذاكرتي الى الوراء فانني اتذكر ان مقابلتي الاولى معه ربما كانت بعد سنة او سنتين او اكثر او اقل من عملي في «الأنباء»، كما انني لا اتذكر تحديدا كيف تمت ولا متى كانت ولاي سبب اخذت مكانها من الواقع الزمني، ومع تصاعد الاحداث محليا واقليميا في منتصف الثمانينيات خاصة مع احتدام الحرب العراقية ـ الايرانية بدأ اتصال الفقيد الراحل يتوثق ويتزايد مع «الأنباء»، كانت الاخت الكريمة «بيبي» هي حلقة الوصل بيننا وبينه، وكانت في الحقيقة حلقة وصل صادقة وقوية ومؤثرة على صعيدي الاستقبال والارسال، وفضلا عما تتمتع به الاخت العزيزة من حس صحافي مرهف وقدرة متميزة على الاستيعاب والتفهم والتصرف بحرفية عالية ومهنية متميزة، فقد كانت لا ترى في والدها ابا حنونا وعطوفا فحسب، بل كانت ترى فيه مثلا أعلى، وهامة شامخة، وقدوة تحتذى، ويشهد الله انني قد عرفت «العم» الراحل من خلال كريمته «بيبي» التي اخذت، مثل بقية اخوانها واخواتها، الكثير من خصاله الحميدة وصفاته الثابتة، ومع تدافع الاحداث وتشابكها وحساسية الخطاب الاعلامي ارتباطا بها، بدأ اتصالي المباشر بالعزيز الراحل يزداد توثقا، وكان ذلك في الحقيقة من خلال الاخت «بيبي» وبفضلها ايضا، فمثلما عرفته عن قرب من خلالها عرفني هو ايضا عن قرب من خلالها ايضا.
وأزعم انني وجدت من خلال الاحتكاك المباشر مع «العم» الكبير خاصيتين كنت اجهلهما في شخصيته الفريدة، فالمعروف عن الفقيد الكريم انه من رجالات الاقتصاد ورواده الاوائل الذين اسهموا بكفاءة نادرة في نهضة الكويت الحديثة وبناء اقتصادها المتكامل، لكنني وجدت صدقا ويقينا انه الى جانب ذلك سياسي بارع واعلامي متمرس.
صوت «أهل الديرة»
قد لا يعلم الكثيرون أن «العم» العزيز كان قارئا نهما، فقد كان لا يكتفي بقراءة كل الجرائد والمجلات الكويتية، بل كان يتعداها الى قراءة الصحف الخليجية واللبنانية والمصرية، مرورا بكل ما تتضمنه من مقالات وآراء، وكان يملك حسا إعلاميا وصحافيا مرهفا، وكانت له العديد من المقترحات والتوجهات والمبادرات التي أثبتت التجربة العملية نجاحها ومصداقيتها، واذكر في هذا الصدد انه كان له توجهان يصر على ان تترجمهما «الأنباء» الى واقع عملي، التوجه الأول هو ان «الأنباء» ليست ملكا خالصا له وحده، لكنها أولا وأخيرا ملك لقرائها، وانها ينبغي ان تكون المنبر المعبّر عن «أهل الديرة»، واللسان الصادق الناطق باسم الأغلبية الصامتة من عموم الشعب الكويتي، أما التوجه الثاني الذي كان يدركه بحسه الإعلامي المرهف فهو ان الصحافة عامل مؤثر في الرأي العام، وهي من خلال هذا الدور الحيوي تصبح عنصرا أساسيا في صنع القرار خاصة في القضايا الشعبية والجماهيرية لصالح الكويت.
تعطيل «الأنباء»
وإذا كانت معادن الرجال تبدو في الشدائد، مثلما تبرز خصال الفرسان في المواقف الصعبة، فإنني أذكر له موقفا إعلاميا صلبا وشجاعا في واقعتين صحافيتين مصيريتين، وأعني بهما تعطيل «الأنباء» عن الصدور مرتين: الأولى في أواخر الثمانينيات لمدة 7 أيام، والثانية في منتصف التسعينيات لمدة 5 أيام، وكان التعطيلان لـ «الأنباء» بسبب قضايا الرأي وحرية التعبير.
كان من الممكن ان يلجأ مثل بعض أصحاب الصحف الى أسهل الحلول ويتنصل من المسؤولية ويلقي باللوم علينا نحن الصحافيين والمحررين في اننا السبب في قرار التعطيل، لكنه تصرف على العكس من ذلك تماما، فقد آزرنا بشدة وطلب منا ان نستمر في سياستنا التحريرية، وان نتبنى أكثر وأعمق قضايا الرأي دفاعا عن الفئات الشعبية وسعيا الى صالح الكويت، وبالفعل تبين للجميع حكمة نظريته وثبات سياسته، فقد تحول تعطيل «الأنباء» الى عامل مهم وحيوي وجوهري في قوتها واتساع انتشارها والتفاف القراء حولها ودعم الشارع الكويتي لها.
ما أقصده هنا هو انه لم يكن أحد الرموز الاقتصادية للكويت فحسب، لكنه كان سياسيا بارعا وإعلاميا ناجحا بالفطرة والسليقة، لم يكن مثل البعض صاحب جريدة يتركها لبعض المتخصصين والمحترفين، لكنه كان صاحب رسالة إعلامية، وفي الوقت نفسه كان يتفهم تماما وبعمق أصول اللعبة الإعلامية وفنون الممارسة الصحافية.
حتمية التحرير
كان الاحتلال العراقي الآثم للكويت محكا قاسيا واختبارا صعبا لكل شعب الكويت، وبصفة خاصة للنخبة من رجالاتها وقياداتها حكوميا وشعبيا، ولا جدال في أن هذا الاحتلال يكاد يكون أكبر محنة واجهتها الكويت عبر تاريخها المعاصر.
وقبل أسبوعين من الاحتلال بدأ فقيدنا الراحل يدرك عن كثب أبعاد الخطر القادم من الشمال. وأذكر أنه قال لنا في «الأنباء» إن الأمر لن يكون مجرد توتر على حدود الكويت الشمالية، لكن الأمر أبعد وأخطر من ذلك بكثير. كان استشعاره للاحداث دقيقا بحكم ثاقب رؤيته وحكمته وبعد بصره وعمق بصيرته.
ومع الساعات الاولى للغزو الغاشم أدرك على الفور أن الأمر ينذر بكارثة كبرى على المنطقة بأسرها.
كان الفقيد الكريم هو آخر من غادر الكويت من أفراد أسرته الكريمة في الايام الاولى للاحتلال، وكان آخر اتصال أجراه معي من «الخيران» حيث غادرها بعد ذلك الى المنطقة الشرقية بالمملكة الشقيقة، وإن كنت لا أعلم هل كان طريقه اليها برا أم بحرا؟ ومن المنطقة الشرقية بالسعودية انتقل «العم» الى «الطائف» حيث ظل الى جوار صاحب السمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح، حيث مكان مقر القيادة الكويتية بكل وزرائها وشيوخها ومسؤوليها.
وبرغم قتامة الأحداث ومرارة الاحتلال فقد كان واثقا منذ اللحظة الاولى من حتمية تحرير الكويت. لم يكن يدعو للتقاعس أو التواكل، بل على العكس كان يدعو ويسهم في العمل الجاد على طريق التحرير، لكنه بحكم خبرته وحنكته وحكمته كان يتفهم جيدا أبعاد السياسة الدولية والاقليمية، ومن خلال ذلك آمن بأن تحرير الديرة حادث لا محالة وحاصل حتميا. وقد ظل في «الطائف» الى جانب سمو الأمير وأعضاء الحكومة الكويتية الى أن جاء الى القاهرة في شهر ديسمبر 1990 في زيارة قصيرة تابع خلالها السياسة التحريرية لجريدة «الأنباء» التي كان قد قرر إصدارها من القاهرة منذ الاسبوع الاول للاحتلال لتكون صوت المقاومة الوطنية والشعبية ضد الاحتلال الغاشم.
وخلال تلك الزيارة السريعة الى القاهرة التي عاد بعدها الى «الطائف» جلست أستمع اليه ضمن مجموعة من الزملاء وهو يشرح لنا نظريته المؤكدة لحتمية التحرير بحكم قربه من تطورات الاحداث وتفاعلاتها. كلماته يومها مازلت أذكرها تحديدا وحرفيا. كان الملل قد بدأ يتسلل الى النفوس وكان مرور أربعة أشهر وقتها على الاحتلال قد أصاب البعض باليأس، لكن كلماته يومها اخترقت الرؤوس وهو يقول لنا في ثقة وإصرار: «إن تحرير الكويت سيتم قريبا بل وأقرب مما يتصور الكثيرون». وأضاف قائلا: «اسمحوا لي وأنصتوا إلى كلامي جيدا.. فلن يجيء العيد الوطني للديرة في فبراير المقبل إلا وستكون الكويت محررة».
وبالفعل تحقق ما قال وبصورة زمنية دقيقة، فمع حلول موعد العيد الوطني «عيد الاستقلال» بدأت تباشير التحرير تلوح في الأفق في تتابع عاجل وسرعة قياسية.
كان طوال فترة الاحتلال مؤمنا بحتمية تحرير الديرة، وكان ما يشغله وقتها هو ما بعد التحرير، وبصفة خاصة ضرورة الإعداد العاجل للإعمار وإزالة آثار العدوان.
ما أعنيه هنا هو أنه كان خلال فترة الاحتلال رابط الجأش، واثق الخطى، واسع الأفق، صائب الرأي. وضع نفسه طوال الوقت تحت تصرف قيادة الكويت ورموزها الحاكمة، ولم يبخل على مسيرة التحرير بالجهد والمال والنصيحة المخلصة.
إلى رحاب الله
كان يحب مصر بعد حبه الجارف للكويت، وشاءت ارادة الله ان ينتقل الى رحابه وهو على ارض مصر وفي مزرعته على ضفاف النيل بالقاهرة، صعدت روحه الطاهرة الى بارئها في يوم مبارك وفي ساعة مباركة، فقد استرد المولى عز وجل وديعته في يوم الجمعة الماضي وعقب صلاة الجمعة مباشرة.
كانت «المزرعة» قريبة الى قلبه ومحببة الى نفسه، خاصة انه اشرف على انشائها وإقامتها منذ سنوات طويلة، وظل يلاحقها بالتطوير بصورة مستمرة ودائمة.
وقد اعتاد في السنوات الاخيرة ان يقضي فيها شهرا وبعض الشهر ما بين ديسمبر ويناير من كل عام، وشاءت الظروف في العام الماضي الا يجيء الى «المزرعة» بسبب وفاة الراحل العزيز نجله «وليد» رحمه الله رحمة واسعة.
وبرغم ظروفه الصحية فقد حرص على ان يكون هذا العام في القاهرة ليستقبل السنة الجديدة في مزرعته على الضفة الغربية للنيل في منطقة «منيل شيحة» ـ جنوب الجيزة ـ المقابلة للضفة الشرقية للنيل في مدينة المعادي.
وصل الى مصر في الخامس عشر من ديسمبر، وكان مقررا ان يعود الى الكويت يوم السبت المقبل الخامس عشر من يناير، لكن ارادة الله عز وجل ـ ولا راد لقضائه ـ شاءت ان يعود الى ارض الديرة روحا طاهرة قبل ذلك الموعد بأسبوع كامل، قدرا محتوما ورحمة واسعة.
الابن البار
قبل ان يأتي الراحل الغالي الى القاهرة بعدة ايام، حرص نجله العزيز فواز «ابوخالد» البار بأبيه، مثلما هم كل ابنائه، حرص على ان يجيء الى مصر ليشرف بنفسه وبكل دقة على ترتيبات زيارة والده بما يوفر له كل مستلزمات الراحة.
وأمر الابن البار «أبوخالد» بإعادة رصف كل طرق وشوارع المزرعة حتى اذا اراد والده عند حضوره ان يتجول في انحائها ـ كما هي عادته ـ لا يجد اي عناء في الحركة بكرسيه المتحرك، ولم يكتف النجل البار بذلك بل قام بنفسه بالجلوس على الكرسي والتحرك به على كل شبر من الاسفلت ليتأكد تماما من نعومة الرصف وعدم وجود اي ارتفاعات او انخفاضات قد تعوق ولو بشيء يسير حركة الكرسي حتى لا يشعر والده بأي تعب او يحس بأي عناء، ولم يترك «ابوخالد» صغيرة ولا كبيرة في المزرعة الا واهتم بها، شاملا بذلك كل تفاصيل التفاصيل حتى يطمئن الى ان والده سيجد كل مقومات الراحة وهو يقضي اجازته في المزرعة المحببة الى قلبه.
اقول هذه الملاحظة التي قد يعتبرها البعض عابرة، لكنني اعتبرها دليلا على المعدن الاصيل الذي تتميز به هذه الاسرة الكريمة اقتداء بكبيرها ومرورا بأبنائها وأحفادها.
ولا يعلم الأخ العزيز «أبوخالد» انني أعرف هذه المعلومة، ولو عرف فسيطلب مني جازما ألا أذكرها أو أكتبها أو أسردها على أحد لأنها في نظره واجب عادي من الابن تجاه أبيه. لكنني سمعتها من عدد من الريفيين البسطاء العاملين في المزرعة، وقد أسرهم وأثر فيهم مدى ما يبذله الابن المخلص تجاه والده الحبيب.
ضاعف العطاء
وفي يوم الأربعاء الخامس عشر من ديسمبر حضر «العم» العزيز والأصيل الى مزرعته ومعه مجموعة من أصدقائه المقربين ومصطحبا معه حفيده «ضرار» نجل ابنه الراحل الفقيد الغالي «وليد»، كما حضر بعد ذلك بأيام حفيده «عبدالله» ابن نجله الراحل «وليد» أيضا.
كان «العم» يمارس نشاطه اليومي المعتاد ولكن بقدر ما تسمح به ظروفه الصحية، يجلس أحيانا في الحديقة أو أمام حمام السباحة مستمتعا بالشمس والهواء الطلق، وأحيانا أخرى يكتفي بالجلوس في الديوانية يتابع نشرات الأخبار في التلفزيون أو يتبادل الأحاديث مع الأصدقاء.
كان، بحكم كرمه وأصالته، حريصا في كل مرة يجيء فيها الى المزرعة على ان يوزع التبرعات السخية على بعض أهالي المنطقة الريفية التي تقع فيها المزرعة والتي تضم الكثير من البسطاء والفقراء، كما كان سخيا دائما في التبرع للمدارس والمرافق الحيوية والعاملين بها في تلك المنطقة من ريف مصر. وبرغم سخاء هذه التبرعات، التي كان يحرص على ان تتم في السر وليس في العلن، إلا أنه هذه المرة قام بمضاعفتها وتأكد بنفسه من وصولها الى أصحابها من البسطاء والفقراء والمحتاجين، ولا أدري هل ضاعف عطاء الخير هذا العام لأنه كان يخشى ألا يتمكن من ذلك في الزيارة المقبلة، أم ان ذلك كان نابعا من كرمه الزائد ونخوته المفرطة.
اللقاء الأخير
وذهبت، كما هي عادتي وعادته معي كلما جاء الى مصر، لأطمئن على صحته وأنعم وأشرف باللقاء معه، واستقبلني – رحمه الله – ودودا بشوشا مرحبا، وسألني بلهفته العفوية عن أحوالي وأحوال أسرتي في اهتمام صادق، وبدلا من أن أطمئن أنا على أحواله الصحية بادرني هو بشهامته ونخوته بسؤالي عن أحوال عيني اللتين لم ينس مطلقا أنني أجريت فيهما عدة عمليات جراحية منذ نحو أربعة عشر عاما أو يزيد.
هذا هو الرجل الذي لم أر مثيلا له بين كل الرجال، وهذا هو الإنسان الذي يظل نبيلا وكريما وأصيلا حتى وهو يواجه متاعب المرض الصحية والنفسية. وسألته – كالعادة – عن أحوال الكويت وسألني عن أحوال مصر وتبادلنا حديثا قصيرا عن أحداث المنطقة، وبين الفينة والأخرى كان يقطع الحديث ليسألني من جديد عن كل أفراد أسرتي ليتأكد أنهم جميعا بخير. كان ودودا الى درجة تشعرك أن صدق أحاسيسه النبيلة تنفذ الى أعماق وجدانك. كانت حالته الصحية مستقرة، لكنني أشهد الله أن أحاديثه هذه المرة كانت مقتضبة بعض الشيء. كان زاهدا في الدنيا الى حد ما لكن عقله وفكره كانا متقدين ومتوهجين ومتميزين ـ كما كان دائما ـ ببعد البصر وعمق البصيرة. وقلت له إن هناك طبيبا للعلاج الطبيعي كان يزورك في الأعوام السابقة ويحقق معك تقدما صحيا ملموسا فلماذا لا تطلبه ليجيء إليك الآن؟ قال لي في هدوء لا يخلو من العناد والزهد: لقد مللت الأطباء والأدوية ولا أشعر بالراحة في التعامل معهم.
سلمت عليه وقبلت رأسه وأنا أودعه سائلا إياه أن أزوره مرات ومرات خلال إقامته القصيرة في القاهرة، وقال لي في محبة وترحاب «تشرّف في أي وقت».
وداعا يا أغلى الرجال
لم أكن أدري أيها الحبيب الغالي أن ذلك هو لقائي الاخير معك. لم أكن أعلم أيها الفقيد الكريم أنك سترحل الى رحاب الله بعد ذلك بأيام قليلة. لم أكن أعتقد يا كبير القامة والمقام أنني لن أراك ثانية ولن أنعم بحديثك العذب وآرائك السديدة وفكرك المستنير.
لم أكن أعلم يومها أنني سأفتقدك ما بقي من عمري طال أم قصر.
وأصدقك القول أيها العزيز الغالي وأنت الآن روحا نقية طاهرة.
لقد كان الجميع يحترمونك لكنني أحترمك أكثر منهم. وكان الكثيرون يقدرونك لكنني أقدرك أكثر منهم. وكانت الغالبية تحبك لكنني أحبك أكثر وأعمق وأكمل منهم. أنا لا أكابر ولا أزايد ولا أبالغ ولا أتزاحم مع أحد، لكنني أعبر عن شعور جارف يشدني إليك، وحزن دفين يعتصرني نحوك.
لقد كنت تحرص وأنت الكبير المهيب على أن تسبق اسمي وأنت تقدمني للناس أو للآخرين بكلمة «أستاذ» كرما منك وأصالة ونبلا فيك، لكنني أقول لك وبكل الصدق وأنت الآن بين يدي الله الكريم الرحيم، لقد كنت أنت أستاذا لي مثلما كنت للكثيرين. تعلمت منك الكثير والكثير.. تعلمت منك الحكمة والاتزان وبعد النظر وعمق البصيرة.. تعلمت منك العناد في الحق والشجاعة في الرأي والصلابة في المواقف والإصرار على النجاح.. وقبل كل هذا وذاك حاولت أن أتعلم منك كيف يكون معدن الرجال أصيلا ولامعا وناصعا قولا وعملا، وفكرا وفعلا.
وداعا من القلب أيها الحبيب الغالي بكل دمعة حزن ذرفتها عيناي، وكل كلمة وفاء نطق بها لساني، وكل نبضة حب انتفض بها فؤادي، وكل لفظ أو حرف سطره قلمي.
وداعا يا أغلى ويا أعز ويا أحب ويا أكرم ويا أوفى الرجال.. كل الرجال.
سلاما أبا الوليد
كتبت كل هذه الكلمات السابقة دون أن أذكر اسمه ليس نسيا أونسيانا او تناسيا، أو غفلة أو إغفالا أو تغافلاً حاشا لله، لكن لأن كل هذه الصفات والخصال والاقوال والافعال، وكل هذه الحياة الحافلة بالعطاء والخير والإعمار التي ذكرتها لا تنطبق إلا على شخص واحد هو العزيز الغالي والحبيب المحب والمحبوب، هو العم الراحل خالد يوسف المرزوق.
رحمك الله يا أبا الوليد وجعل مثواك الجنة بقدر ما أعطيت ووفيت وأوفيت من خير لم يعرف الحدود. رحمك الله في الآخرة مثلما نشرت الرحمة على كل من حولك في الدنيا، تاركا في النفوس ذكرى طاهرة لا تمحى ومكانة كريمة لا تنسى، يذكرك الجميع بالخير العميم، فقد كان الخير هو عنوان رحلتك المعطاءة في الحياة مثلما سيكون الخير نصيبك في الآخرة جزاء وفاقا من رب العالمين وأكرم الأكرمين.