بقلم: يحيى حمزة
في البدء كانت الكلمة.. كلمة حق.. كلمة عدل.. كلمة صدق.. كلمة حب ومحبة.. كلمة حنين.. وقبل ذلك وبعده «كلمة وفاء».
|
العم خالد يوسف المرزوق رحمه الله |
فالكلمة هي خير ما أملك لأعبر به عن مشاعري، والوفاء هو أخلص ما استطيع ان اقدمه الى روحك الطاهرة، والكلمات ليست مجرد حروف تجتمع وتتفرق لكنها مشاعر صادقة تتحرك على الورق في نبض وحيوية، كما ان الوفاء هو انبل شعور انساني يمكن تقديمه احياء لذكراك واعترافا لفضلك وتقديرا لحياتك الحافلة بالعطاء.
لقد افتقدناك كثيرا ايها الحبيب الغالي. افتقدنا احاديثك، وافتقدنا حكمتك وشجاعتك وشهامتك ونخوتك واصالتك وحماستك واصرارك وصراحتك وصرامتك.. افتقدنا رجاحة عقلك وثاقب نظرتك وقوة عزيمتك وصدق نواياك ورؤيتك للحاضر بأصالة الماضي ورؤيتك لليوم بتوقعات الغد وتعاملك مع الواقع بعين المستقبل.. افتقدنا نصائحك وتوجيهاتك النابعة من عمق خبراتك التي حركتها الحياة وصقلتها التحديات وعززتها المواجهات في كل المجالات وفي كل الاتجاهات.
افتقدنا مناصرتك للصغير قبل الكبير، ومؤازرتك للمظلوم تجاه الظالم، وتواضعك في التعامل مع البسطاء كأنك واحد منهم، كي لا يشعروا بأي حرج وانت تغدق كرمك عليهم ماديا او معنويا، ماليا او ادبيا، فالبساطة والعفوية عندك من اصول التعامل، والتواضع وصراحة وسماحة المشاعر لديك من أصالة حسن الخلق، افتقدنا الكثير، وما هو اكثر من الكثير، مما ألفناه وتعودناه وتعلمناه وتلقيناه منك عبر الاقتراب من مسيرة حياتك متعددة المسارات، متنوعة المجالات غزيرة الخبرات، بعيدة الطموحات، متسعة الآفاق، عميقة التأثيرات. افتقدناك عبر عامين مضيا على رحيلك عنا وفراقنا لك، لكن النسيان لم يستطع ولم يتمكن من ان يسدل ستائره على ذكراك العطرة العبقة لأنها قابعة في القلب راسخة في الوجدان.
قد يتصور بعض الذين كانوا بعيدين عنك أنني أبالغ في الحديث عنك وعن خصالك الحميدة وعطائك الجم وفضائلك العديدة، لكن كل من كانوا قريبين منك، وهم كثيرون، يدركون يقينا انني لا اقول غير الحق ولا اعترف بغير الحقيقة، بل ان ما اقوله او اسرده ليس الا جزءا من كل، وغيضا من فيض يدركه جيدا من كانوا اكثر حظا مني وكانوا أقرب اليك مني واكثر دراية بكل جوانب شخصيتك وكل ابعاد مواقفك وكل تفاصيل حركاتك وسكناتك عطاء وسخاء ووفاء وولاء وكرما دافقا بغير حدود ولا قيود.
التكامل والتوازن
أصدقك القول ايها العم الجليل والراحل العزيز انني كنت مبهورا بالعديد من جوانب شخصيتك لا اعني بذلك الكمال فالكمال لله وحده، عز وجل، لكنني اعني به «التكامل».. تكامل الشخصية بما يعطيها القوة والحكمة في آن واحد.. قوة في غير تهور وحكمة في غير ضعف.. قوة محسوبة بدقة وحكمة قد تلجأ الى بعض الصبر والتروي والتأني لكن عينيها لا تبعدان لحظة عن الهدف حتى تصل اليه.
وعندما استعرض شريط الذكريات لكثير من آرائك وافكارك ومواقفك، فان ابرز ما بهرني فيها انها تنبع من شخصية فريدة تتميز بأنها نجحت في ان تمزج بين المعادلات البشرية الصعبة، قوة وضعفا، وصلابة ومرونة، واصرارا بغير تراجع وعفوا الى حد التسامح، فأنت قوي وعنيد في مواجهة التحديات والمشكلات بكل حزم وعزم وحسم، وفي الوقت نفسه فإنك كريم حنون عطوف في معاملاتك الانسانية والبشرية، تأخذ بيد المحتاج وتربت على اكتاف البسطاء، وتتفانى في خدمة الضعفاء، وتفتح أبوابا كثيرة للخير والبر والاحسان، وتفتح بيوتا كثيرة يعيش ابناؤها تحت مظلة كرمك وعطائك.
يضاف الى ذلك ان ما بهرني في شخصيتك انها جمعت بين الماضي والحاضر في توازن دقيق، وهي معضلة يفشل في حلها الكثيرون. وبالمعنى العلمي والموضوعي، فان شخصيتك الفريدة جمعت بين الاصالة والحداثة في تمازج وتناغم وانسجام. فأنت بحكم عوامل الزمان والمكان كنت تنتمي الى «الرعيل الأول» من اهل الكويت بكل تراثهم الأصيل وعقائدهم الراسخة وتقاليدهم الثابتة وقيمهم العريقة، لكنك بحكم خبراتك وأسفارك ورحلاتك الخارجية أصبحت ملما بثقافة العصر وثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات وكل تطورات وتقدمات عصر الفضاء بمختلف جوانبه المادية والمعنوية، ورغم كل ذلك فقد استطعت بشخصيتك الفريدة ان تحقق التوازن بين كل تلك المتناقضات، وتتقدم بخطى ثابتة عبر مشروعاتك الطموحة، متمسكا بتراث الأجداد والآباء ومحلقا في الوقت نفسه في آفاق العصر بل ومستشرفا ومستقرئا المستقبل وساعيا دائما الى الإعداد له تمهيدا للإقدام عليه.
فارس لا ينكسر
وعندما أمضي مع شريط الذكريات أستعرض من خلاله سلسلة مواقفك من الأحداث والتحديات ومواجهتك لها اقتحاما وإقداما، فإنني أجد أنك كنت رجلا «لا ينكسر»، وفارسا لا ينزل عن جواده مهما كانت قوة العواصف والقواصف، فطريقك لم يكن مفروشا كله بالورود، سواء في مقتبل حياتك او ريعان شبابك بل وفي كل معتركات الحياة التي خضتها وتحدياتها حتى رفعت رايتك عليها، كان شعارك دوما وأبدا هو المثابرة والاصرار وقوة العزم والشكيمة والثبات على الموقف دون اي تراجع مهما كانت التضحيات، ويشهد الكثيرون ان بعض التعثرات التي واجهتك او واجهت بعض مشاريعك لم تفت في عضدك او تؤثر قيد أنملة في عزيمتك، بل انها لم تدعُك ولو للحظة الى التشاؤم او تجعل اليأس يتسلل ولو لدقيقة الى نفسك، وعلى العكس من ذلك فقد زادتك اصرارا وحماسة، وقبل ذلك كله فقد زادتك خبرة وحكمة وحنكة مستنبطا منها الصواب من الخطأ ومصقلا بها رصيد التجارب في حياتك التي كانت حافلة بحصاد كامل من الخبرات والتجارب.
القفز إلى المجهول
لم تكن أيها الحبيب العزيز الجليل الكريم الراحل معنيا بأمور الكويت فحسب، بل كنت مهتما بكل تحديات المنطقة الخليجية وكل هموم المنطقة العربية بأسرها، وكانت لك بحكم اتصالاتك العريضة ومتابعاتك الدقيقة ومطالعاتك الكثيرة، كانت لك رؤية تحليلية للكثير مما جرى في منطقتنا العربية، وكان أهم ما في تحليلاتك أنها نابعة من إلمامك ببعض ما جرى ويجري وراء الكواليس، الى جانب قدرتك الفائقة على الربط بين الأحداث والشخصيات والنظر اليها بصورة بانورامية شاملة تضم المنطقة العربية كلها، بعيدها وقريبها، من المحيط الى الخليج.
ومن حسن حظي وطالعي ان زياراتك لمصر خلال السنوات الأخيرة قد أتاحت لي أن أشرف بالحضور اليك في مزرعتك على ضفاف النيل لأستمع وأنصت لأحاديثك المسهبة عن واقع ما يحدث في أمتنا شرقا وغربا شمالا وجنوبا، وفي دول الجوار، وفي غير دول الجوار، كنت شغوفا بمعرفة آرائك في الأحداث وتحليلك لها، وكنت ـ رحمك الله ـ كريما في كل شيء كما هي عادتك دائما، وكريما بصفة خاصة في اشباع رغبتي وحب استطلاعي في الاستزادة من علمك الغزير بالكثير من بواطن الأمور، ومن رؤيتك التحليلية لواقعنا العربي بكل أبعاده وتياراته وأحداثه وشخصياته، ولم تكن وقتها تتوقع ما حدث منطقتنا العربية في العامين الأخيرين، فما حدث كان مفاجأة لم يتوقعها أحد من المتفائلين او المتشائمين، لكنك ـ والحق يقال ـ كنت تحذر من أخطار ومخاطر كبيرة تحيط بمنطقتنا، فضلا عن تحديات كثيرة تكاد تقصم ظهرها، وكنت ترى ان العبور الى المستقبل يحتاج الى معجزات، ويتطلب مزيدا من الحكمة والتحكم في الفعل ورد الفعل على حد سواء.
ويشاء القدر ان تنتقل الى رحاب الله في السابع من يناير من العام 2011، وبعدها بأسبوع واحد أطاحت ثورة الياسمين بالرئيس التونسي لتندلع بعد ذلك بأحد عشر يوما ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر، ثم تتسارع الأحداث لتعصف بالمنطقة في موجات عاتية متعاقبة دون ان تضع الأحداث والعواصف رحالها الى الآن.
كم كنت أتوق الى ان أعرف رأيك فيما يعصف بعالمنا العربي اليوم من مفاجآت وتداعيات، وكم كنت أشتاق الى أن أنصت الى تحليلك لها عسى ان يعينني ذلك على أن ألتمس نقطة ضوء في النفق المظلم. لكن ليس كل ما يتوق إليه المرء يدركه، بل يستحيل أن يدركه. على انني أؤمن يقينا ان بلادنا العربية خاصة في أيامنا العاصفة حاليا أحوج ما تكون إلى رجال عقلاء مثلك، يغلبون الحكمة، ويخلصون النصح، ويفضلون مصالح الأمة على المصالح الخاصة، ويجنبون المنطقة العربية مخاطر القفز الى المجهول.
رجل الوفاء
تحية وفاء إليك خالصة صادقة صافية، أقدمها الى روحك النقية الطاهرة. تحية الوفاء إليك يا رجل الوفاء ورمزه ورائده وقدوته ونموذجه. فقد عشت حياتك وفيا للكويت، متفانيا في الولاء والعطاء لها، مجندا نفسك لخدمة أهلها وأبنائها، حريصا على تماسكهم وتلاحمهم وتراحمهم، متقدما الصفوف دائما في سبيل تحقيق كل ما يصبون ويتطلعون إليه.
لم يكن الوفاء مجرد شعار ترفعه، او دعوة تحمل لواءها، بل كان مسلكا تتمسك به، ومنهجا تسير عليه. وعندما قررت في مطلع عام 1976 إصدار جريدة «الأنباء» كان هدفك منها وسياستك لها ان تكون وفية لأهل الكويت، وناطقة بلسانهم، ومعبرة عن نبضهم، وطارحة لمشاكلهم وداعية الى وحدتهم، ودافعة الى طموحاتهم، ومدافعة عن قضاياهم، ومؤمنة بأن كويت الأسرة الواحدة المتآلفة المتحالفة هي الضمان الأول لحمايتها من أي مكروه والداعم الأول لتحقيق آمالها في التقدم والتنمية. وكنت رحمك الله، أول المنادين والداعين والمبادرين بإقامة «ملتقى الوفاء» ليجمع حوله القلوب قبل العقول في حب الكويت والإخلاص لها والعمل من أجل رفعتها وازدهارها.
ولم يكن الوفاء يقتصر عندك على الوفاء للكويت فقط، لكن الوفاء كان شيمة متأصلة في نفسك وفي روحك وفي كيانك وشخصيتك. وعندما حدث الاحتلال العراقي الإجرامي للكويت، وبزغ من بعده فجر تحرير «الديرة» من براثنه الآثمة، كانت تعليماتك مع إعادة إصدار «الأنباء» من أرض الكويت المحررة، بعد ان ظلت تصدر من القاهرة طوال شهور الاحتلال لتكون منارة للمقاومة الكويتية الباسلة وخنجرا في صدر العدو المحتل وقلما كويتيا صادقا ينطق بالحق ويجأر به عاليا مدويا، كانت تعليماتك مع أول عدد من «الأنباء» عاد ليصدر من أرض الكويت الطاهرة، ان تصدر «الأنباء» ملحقا يخصص كل يوم لدولة من دول التحالف الذي تصدى للاحتلال الآثم وشارك في تحرير الديرة، وذلك كله وفاء من أهل الكويت الى هذه الدول. وبالفعل أصدرت «الأنباء» أكثر من 40 ملحقا يوميا شملت كل بلاد التحالف التحريري، صغيرها وكبيرها، تأكيدا على ان الكويت وفية لكل من آزرها ووقف بجانبها وانتصر لقضيتها العادلة.
تحية الوفاء الى رجل الوفاء الذي لم يضن على وطنه ومواطنيه بكل غال ونفيس، فالكويت كانت تعيش في قلبه، وتسري في دمه، وتمتزج بوجدانه، وتنصهر في مشاعره، لتصبح عقله الباطن والظاهر والمحرك لكل تصرفاته وأفعاله وسلوكياته.
تحية الوفاء الى رجل الوفاء، الى الفقيد الراحل والحبيب الغالي العم خالد يوسف المرزوق وإلى نفسه المطمئنة والى روحه الوفية النقية الطاهرة.