|
العم خالد يوسف المرزوق رحمه الله |
من فضل الله علينا ورحمته بنا أنه تكرم علينا بنعمة النسيان لعلها تخفف عنا نسبيا وتدريجيا احزان فراق الاحباء ومرارة افتقادهم وحرارة الحنين إليهم والاشتياق لهم والإحساس العميق بالفراغ الذي احدثه غيابهم عنا برحيلهم عن حياتنا ودنيانا.
لكن النسيان مهما اسدلت ستائره بفعل تتابع الزمان وتباعد الأيام، فإنه لا يمكن مطلقا وأبدا ان يمحو او يقلل من «الذكرى العطرة» التي تخترق الزمان وتتجاوز المكان وتظل صامدة وراسخة في الاذهان، فقد شاءت حكمته سبحانه وتعالى ان تكون هذه «الذكرى» امتدادا روحيا ومعنويا لحياة الإنسان بعد رحيله، لاسيما اذا كانت هذه الذكرى حافلة بالعطاء، وعاطرة بالخير بكل مجالاته وفروعه ومناحيه، وزاخرة بالإنجازات التي تمتد من الماضي الى الحاضر، دليلا وشاهدا على «العمل الصالح» الذي لم ينقطع عطاؤه بل مازال مستمرا اثره وتأثيره.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
وإذا كانت الذكرى العطرة بكل عمقها واتساعها وغزارتها للحبيب الغالي والعم الراحل خالد يوسف المرزوق في الذكرى الرابعة لرحيله، تظل راسخة في الوجدان وصعبة وعصية على النسيان، فإنها في الوقت نفسه تجيء مصداقا قلبا وقالبا لقول الرسول الكريم الذي جاءت كلماته نبراسا لنا ومنهاجا لحياتنا.
فالفقيد العزيز لم يترك لنا الذكرى العطرة فحسب، بل ترك ايضا صدقات وصدقات جارية ومستمرة حتى اليوم وحتى الغد وحتى المستقبل القريب والبعيد بإذن الله. وأعماله الخيرية على اتساعها وتنوعها، لم تكن حاضرة وقتها فقط، ولكنه - رحمه الله - وضع لها من الأطر التنظيمية والكيانات التأسيسية ما يضمن لها استمرار العطاء، بغض النظر عن وجوده الكريم بيننا، او رحيله الى رحاب الله الواسعة.
يضاف الى ذلك ان ابناء اسرته الكريمة لم يكتفوا بكل «صدقاته الجارية» بل زادوا عليها وضاعفوا من كرمهم فيها، ترحما عليه من ناحية وترسيخا لذكراه العطرة من ناحية ثانية، وتأكيدا لمسيرته الخيرة من جانب ثالث، فضلا عن انها اضافة كبيرة لميزان حسناته من زاوية رابعة، الى جانب انها من ناحية خامسة هي تكريس لحقيقة اصيلة وهي أنهم «خير خلف لخير سلف».
وإذا كان الخير دائما واضحا للعيان لا يحتاج الى تعريف او تذكير باعتباره عنوان الحقيقة فإن ما قام به العزيز الراحل العم خالد يوسف المرزوق، وما يقوم به ابناؤه وبناته وسائر اسرته الكريمة، من اعمال خيرية لا يحتاج الى ذكر أو تبيان، خاصة ان ما يجري منها في الخفاء اكثر بكثير مما يتم في العلن، إيمانا منهم بالآية القرآنية الكريمة: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) صدق الله العظيم.
ولا أريد أن استطرد كثيرا في الحديث عن الشق الأول من حديث رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام، وأعني به «الصدقة الجارية» لأن الفقيد الراحل وأسرته الكريمة لا يحبون التطرق لهذا الجانب الخيري من نشاطهم الإنساني، بل يحيطونه في الكثير من الأحيان بسياج من الكتمان، تواضعا وكرما منهم، وحرصا ممن يعطي على مشاعر وأحاسيس من يأخذ، وإيمانا منهم بأن تقديم الخير للعباد، هو أولا وأخيرا طاعة وتنفيذ لكلمات رب العباد (ومما رزقناهم ينفقون).
وإذا عدنا إلى الشق الثاني من الحديث الشريف الذي أكد فيه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن عمل ابن آدم يستمر بعد مماته إذا ترك «علما ينتفع به»، فإن العلم بمفهومه الواسع لا يقتصر على ان يكون كتابا او مؤلفا او مجلدا او اختراعا، بل انه اشمل من ذلك لأن الحديث الشريف ربط بين «العلم» و«المنفعة»، وبالتالي فإن هذا العلم يمكن ان يكون حصيلة خبرات وتجارب ناجحة، يحقق اتباعها والسير على نهجها منافع مباشرة وغير مباشرة سواء للناس او للمجتمع او لأهل الاختصاص.
ولا شك ان «العلم النافع» الذي تركه العم الراحل خالد يوسف المرزوق، يتمثل في انه ارسى قواعد ما يمكن تسميته بمدرسة متميزة في الفكر العمراني والاستثمار العقاري.
ولن نكرر هنا ما سبق ان قيل وأصبح من الحقائق الثابتة من ان العم خالد يوسف المرزوق كان من رواد النهضة العمرانية التي صاحبت وواكبت المراحل الأولى لاستقلال الكويت في الستينيات وامتدت معها الى السبعينيات من القرن الماضي، فضلا عن انه من مؤسسي البنك العقاري، والعديد من الكيانات العقارية في الكويت.
إننا لن نكرر ذلك برغم أهميته وتأثيره، لكننا نضيف إلى هذه الحقائق انه كان صاحب «مدرسة» للاستثمار العقاري مازالت بأبعادها وملامحها وخبراتها مستمرة ومؤثرة في النهضة العمرانية في الكويت.
وتتمثل هذه «المدرسة» في حصيلة من الخبرات تشكل «علما ومنهجا» ينتفع بهما وتقتنع بهما وتسير عليهما الكثير من كياناتنا العقارية حاضرا ومستقبلا.
وإذا انتقلنا من العموم إلى الخصوص، ومن الكليات إلى الجزئيات والتفاصيل، فإننا يمكن ان نقول إن هذه المدرسة العمرانية والعقارية تقوم على أركان ثلاثة: أولها استباق العصر أو التعامل مع الحاضر بعين المستقبل، وبدء العمل من حيث انتهى الآخرون، والاستفادة من كل تجارب الدول المتقدمة بما يناسب بيئتنا وطبيعتنا، يتمثل ذلك في أن فقيدنا العزيز كان رائدا في مشاريعه العقارية ورائدا في نوعيتها وتميزها عما هو قائم باتجاه ما ينبغي ان يقوم، كما كان رائدا في الكثير من الأفكار والمشاريع العمرانية، بدءا من بناء أول مواقف للسيارات متعددة الطوابق وانتهاء بالمدن البحرية، مرورا بسلسلة لم تنقطع من الاستثمارات العقارية المتعددة الأهداف والمتنوعة الفعاليات.
أما الركن الثاني لمدرسة العم خالد يوسف المرزوق في الفكر والاستثمار العقاري فهو الجرأة المحسوبة في غير تهور، مع الإصرار عليها مهما كانت التحديات والصعوبات. فهو لا يلجأ إلى «السهل التقليدي» بقدر ما يفضل عليه «الصعب الطموح» مستعينا في ذلك بالدراسة المتأنية والتطبيق السليم والإشراف والمتابعة المباشرة والاطلاع بنفسه على كل التفاصيل.
يبقى الركن الثالث من مبادئ ومفاهيم هذه المدرسة العقارية، وأعني به انه كان احد رواد الانتقال بالاستثمارات العقارية الكويتية الى خارج الحدود، ليس فقط عبر الدول الخليجية والعربية بل تعدى ذلك الى العالم الخارجي وفي العديد من بلاده المتقدمة وربما اصبحت الاستثمارات العقارية الكويتية في الخارج واقعا عاديا وملموسا حاليا، لكن لا شك انها كانت في البداية خطوة جسورة وجرأة محسوبة وفكرا مستقبليا ومنهجا له مبادئه وأصوله من حيث الحرص على تنوع وتعدد وتكامل مجالات الاستثمار والخروج بها من الدائرة الضيقة الى الآفاق البعيدة بكل طموحاتها الواسعة.
وإذا عدنا إلى الحديث الشريف عن «العمل» الذي لا ينقطع برحيل الإنسان عن حياتنا الدنيا، بل يستمر عطاؤه امتدادا لسجل عمله السابق، وإحياء لذكراه العطرة، وتأكيدا لدوام مسيرة الخير في حياته وبعد رحيله، إذا عدنا إلى نص الحديث الشريف فإننا نجد ان الشق الثالث لاستمرار عمل الإنسان هو وجود «ولد صالح يدعو له». ولا جدال في أن الحبيب الغالي العم خالد يوسف المرزوق قد رزقه الله بأولاد وبنات لا يكتفون فحسب بالدعاء له، بل إنهم يضاعفون الدعاء، ويتفانون فيه، ويقرنونه بالعمل الصالح.
ولا نبالغ في الحقيقة إذا قلنا إن أبناء وبنات الفقيد العزيز الراحل قد ترجموا الدعاء له إلى حرص وإصرار على استكمال مسيرته، والامتداد بها الى آفاق اوسع وطموحات اكبر، فهم لم يكتفوا بتنفيذ المراحل المختلفة للمشاريع التي بدأها قبل رحيله، او بدأوها معه في السنوات الاخيرة، بل تمكنوا بالفعل من تحقيق العديد من افكاره التي لم يسعفه الزمن ليحولها الى واقع، ولم يكتفوا بذلك ايضا لكنهم اتخذوا من فكره الطموح البعيد النظر منهاجا لأسلوب عملهم، ليطرقوا به مشاريع جديدة تسبق العصر، وتسابق الزمن، وتحقق النجاحات تلو النجاحات.
لم تقتصر مشاريع أسرة الخير التي حملت الراية من بعده على المشاريع العمرانية والعقارية والاستثمارية في مختلف المجالات، بل تجاوزت ذلك الى تحقيق طموحات اقتصادية واجتماعية كبيرة ليس على الصعيد المحلي فقط لكنها امتدت الى المنطقة الخليجية بأسرها ومنها الى المنطقة العربية.
لا يعني ذلك ان يكون استمرار المسيرة مطابقا تماما وحرفيا للأصل، فلكل جيل أسلوبه الخاص وطابعه المعاصر، فضلا عن مقتضيات التغيرات الزمانية والمكانية، التي تقتضي التطوير المستمر والتحديث الدائم، إلى جانب ان لكل جيل ولكل شخص هويته وبصماته الذاتية التي لا بد منها ولا غنى عنها.
لكن المهم في كل ذلك ان روح مسيرة العمل والعطاء لم تتغير، لا من حيث الهدف ولا من حيث اسلوب الأداء ولا من حيث الإصرار بقوة على تخطي الصعاب والتحديات، وما اكثرها في زمننا المعاصر.
لقد كان ابناء وبنات العم الراحل خالد يوسف المرزوق هم ذراعه اليمنى في تحقيق احلامه وتنفيذ مشروعاته الجسورة. وقد تشربوا منه روح العزيمة التي لا تعرف الانكسار.. فلم يكن طريقه وطريقهم مفروشين بالورود، وكم تعرضت بعض افكارهم ومشاريعهم للتعثر، لكن الاصرار الى حد العناد، والجرأة المحسوبة بعيدا عن التهور، والروح الخلاقة المتحمسة دون تردد، كانت دائما هي سلاحهم في مواجهة المشاكل وتخطي الصعاب والوصول الى الاهداف من اقصر الطرق واكثرها حسما وحزما وعزما.
إن كل إنسان يتمنى لأسرته وأبنائه وبناته ان يكملوا مسيرته من بعده، وأن يكونوا امتدادا طيبا له، بل أن يحققوا ما هو اكثر من آماله وأكبر من طموحاته.
وأحسب أن روح العم العزيز الراحل خالد يوسف المرزوق ترفرف فوق اسرته وأبنائه وبناته وأحفاده راضية مرضية عنهم، فخورة بكل ما أدوه وأنجزوه، سعيدة بسيرتهم ومسيرتهم، مطمئنة إلى خطاهم الثابتة وخطواتهم الطموحة، متمنية لهم دوام التفوق والتوفيق والنجاح.