اهتم الاسلام وشحذ همم المسلمين وأفكارهم بالعلم والبحث العلمي والتدبر والتمحص في آيات الله في الآفاق وفي أنفسنا، بدءا من نزول الوحي سيدنا جبريل عليه السلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر والحث على القراءة، وحتى تترى الأمم والحضارات للنهل من معطيات العلوم المختلفة.
ولقد حظي الكون وأصله باهتمام العديد من العلماء والفلاسفة ورجال الدين المسلمين وغيرهم منذ عقود خلت وحتى يومنا هذا عندما أصبحت الاجهزة العلمية والحواسيب في تناولهم للتوصل في أبحاثهم إلى فرضياتهم ومبتغاهم.
فبنيت نظريات الجاذبية لنيوتن والنسبية العامة لاينشتاين، ودراسات الخاصية لحركة الامواج للعالم هابل، ونتائج دراسة الموجات الضوئية أو الضوء المنبعث من النجوم.. إلخ. كل ذلك محاولة لتحديد كيفية نشأة الكون وتحديد عمره.
ولكون تلك اجتهادات علمية نقرّ بها ونثني عليها، قد تصيب تارة وقد تدحض تارة أخرى، إلا أن كتاب الله الكريم لا يخطئ البتة.
لقد كانت آيات الكتاب الحكيم سببا في تحفيز عقول العلماء المسلمين وتوجيههم إلى البحث في أسرار الكون، فأنشأوا العلوم الطبيعية والكونية بكل أنواعها متخذين من آيات القرآن اصولا في المعرفة بالكون، وأفكارا قائدة لهم في البحث، ومناهج وأهدافا للوصول الى المعرفة.
بيد أن الكثير من الآيات لم تدرس الدراسة الكافية، ولا يمكن أن تتجلى فيها الا في ضوء المعرفة العلمية الحديثة، ولذلك نجد اليوم علماء مسلمين وغير مسلمين يؤلفون في علوم القرآن بهذا المعنى، ويفهمون آياته فهما متجددا، من تلك الآيات ما ستظل بلا تفسير مناسب إلى أن تتقدم المعرفة العلمية، لذا، ينظر القرآن الى الحاضر والمستقبل البعيد متجليا في ذلك قوله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد- فصلت: 53).
وهكذا يمكن للمفكر بقدرة الله ان يستخلص من القرآن احكاما عامة متكاملة عن الكون في جملته، وكذلك عن اجزائه الكبرى في السماء والأرض، ونستطيع اليوم أن نتحدث بحق عن «علم كوني قرآني» بمعنى كوسمولوجيا قرآنية» بالمعنى المعروف في العلم الحديث، إذ إن هذا العلم هو منتهى دراسة علم الفلك، لأنه يتناول أمورا شاملة حول نشأة هذا الكون وأصله، وطبيعته، وتشكيلاته، وقوانينه العامة.
وفي هذا المضمار ساهم علماء الإسلام من قبل ذلك بجهود أدت إلى الابتكار وسجلها تاريخ العلم، وتوالت مؤلفاتهم لتشتمل على كثير من موضوعات العلوم الطبيعية المتنوعة والكونية مع الإشارة المستمرة الى آيات القرآن.
وتنامت وتباينت المؤلفات في الإسلام والعلم أو آيات القرآن وفهمها بالعلم، وعقدت المؤتمرات حول العلوم في القرآن، وحول القرآن واعجازه العلمي، وتنظم الملتقيات الفكرية الدورية حول الفكر الإسلامي في شتى ميادينه، ومنها ما خصص للقرآن وعلومه، بل إن وسائل الإعلام في بلاد الاسلام تتناول آيات القرآن وتلقي الاضواء على معانيها بحسب المعارف العلمية الحديثة.
ويذهب هؤلاء العلماء إلى أن الكون كتاب الله المفتوح، والقرآن الكريم كتاب الله المقروء. والله سبحانه وتعالى يدعونا إلى النظر والتدبر والدراسة لمعرفة مسببات الظواهر الكونية ونشأة الكون لندرك ما في آياته من إعجاز، وما في مخلوقاته من إبداع ولنتعرف ونستدل ونتيقن على وجود الله وقدراته ووحدانيته.
ولقد نجمت عن تلك الجهود تساؤلات عدة مفادها ما هو الكون؟
سؤال يمكن التطرق إليه على مستويين، أحدهما هو تعريف الكون وربما لغنى المحتوى الذي يتضمنه الكون، والتشكل الذي اتخذه، ففي هذه الحالة نجد إجابات عديدة قدمتها الحضارات والفلسفات والعلوم عبر التاريخ.
الكون بين الفلاسفة والفيزيائيين
الفلاسفة يعرفون الكون، على أنه «مجموع كل ما يوجد» (يعني ماديا). وهذا يعني ان الكون واحد، لأنه لو وجد «كونان» لكان الكون بهذا التعريف (المجموع) هو الكل، أي مجموع الكونية، ولو كان هناك عدد لانهائي من «الأكوان» لعرف الفلاسفة «الكون» بمجموعها.
أما علماء الطبيعة (الفيزيائيون) فيقدمون ذات التعريف تقريبا مع إضافة ملاحظات مهمة، «هو كل شيء (طبيعي) فيزيائي موجود، ويقصد بذلك كل المادة الموزعة في الكون وكل انواع الطاقة وكل الأشياء اللامادية مثل الثقوب السوداء وأمواج الجاذبية، وكل الفضاء أيضا حيثما امتد الى ما لا نهاية» بيد ان علماء الطبيعة أيضا يؤكدون أن تعريف الكون لا يدخل فيه سوى ما هو قابل للإدراك والمعرفة، فلو وجدت أجسام (مجرات أو أجرام أخرى) لا يمكننا التطلع إليها، فلا يصح أن نعتبرها جزءا من الكون، بل نضعها «خارجه».
يتناول القرآن كل ما يقع تحت الحس من ظاهرات على الأرض وفي الجو القريب منها وفي داخل النظام السماوي سواء ما يحدث في الجو مثل المراحل التي يسقط في نهايتها المطر من السحب التراكمية كما في قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سننا برقه يذهب بالأبصار- النور: 43)، أو مراحل ظهور النبات على الأرض مع الاشارة إلى جمال الطبيعة كما في قوله تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم- عبس: 24 - 32).
وفي قوله تعالى (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج- الحج: 5)، وفي قوله تعالى (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم- ـ الشعراء: 7)، وفيما يتعلق بعالم الحيوان نجد كذلك ذكرا لأصنافها وزينتها وجمالها الذي تسعد بها عين الإنسان وتسر حالته كما في قوله تعالى (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون- النحل: 4)، وفي قوله تعالى (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء ان الله على كل شيء قدير- النور: 45)، أو في مراحل تكوين الجنين في بطن أمه، ثم تطور الإنسان في مراحل الحياة كما في قوله تعالى (يأيها الناس ان كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) ـ الحج: 5، وفي قوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين- المؤمنون: 12 ـ 14).
أهمية البحث العلمي والتدبر
ولقد بين القرآن الكريم وأعطى أسماء وألفاظا واضحة لكل ما تحدث عنه، فوضع الأسس للمصطلح العلمي ونوه الى أهمية البحث العلمي والتفكير والتدبر والتمحص في ماهية خلق الله.
وأكد ان لكل شيء طبيعته السوية المتعادلة وله مجراه وقانون وجوده كما في قوله تعالى (سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى- الأعلى: 1 ـ 3)، وفي قوله تعالى (قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى- طه: 49 ـ 50).
وفي قوله تعالى (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا- الطلاق: 3).
ان لكل شيء كما ومقدارا كما في قوله تعالى (وخلق كل شيء فقدره تقديرا- الفرقان: 2)، وقوله تعالى (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار- الرعد: 8).
وأشار القرآن المجيد الى ان كل شيء له «كيف» بمختلف المعاني التي تعبر عنها هذه الكلمة كقوله تعالى (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج- ق: 6).
وفي قوله تعالى (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا- الفرقان: 45 ـ 46).
لذا نستيقن نحن معشر المسلمين بأن كل شيء في نظام المخلوقات في وجوده حكمة وغاية وله قانون، وهذا ما تدل عليه كلمة (بالحق) التي ترد بالقرآن الكريم عند التطرق الى نظام هذا الكون كقوله تعالى (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما الا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون- الدخان: 38 ـ 39).
وفي قوله تعالى (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون- يونس: 5).
ولقد احتل موضوع نشأة الكون مكانة كبيرة في الفكر الفلسفي لدى علماء المسلمين.
وبرز دوره في الصراع الفكري (والسياسي) الذي دار بين الأشاعرة والمعتزلة، واستغله كل فريق في تعضيد حجة للدفاع عن رأيه، والذود عن فكره، فعلى سبيل المثال يذكر أبوحامد الغزالي في كتابه «الاقتصاد» ان حدوث العالم يؤدي الى نفي السببية، فإذا كان العالم مخلوقا، وهذا ما يخبرنا به القرآن الكريم، فوجوده غير ضروري، وهو ليس من عمل العقل، لأن العقل لا يعلل الا ما هو ضروري، فهو اذن من عمل الإرادة الإلهية، ونحن ندعي ان الله مريد لأفعاله، وبرهانه ان الفعل الصادر منه مختص بضروب من الجواز لا يميز بعضها من البعض الا بمرجع، والله سبحانه وتعالى يعلم ان وجود العالم في الوقت الذي وجد فيه كان ممكنا، وان وجوده بعد ذلك وقبل ذلك كان مساويا له في الإمكان، لأن هذه الامكانيات متساوية.
فحق العلم ان يتعلق بها كما هو عليه، فإن اقتضت صفة الإرادة وقوعه في وقت معين تعلم العلم بتعيين وجوده في ذلك الوقت لله تعلق الإرادة به، فتكون الإرادة للتعين علة ويكون العلم متعلقا به وتابعا له، غير مؤثر فيه، ولو جاز ان يكفي بالعلم عن الإرادة لاكتفى به عن القدرة، بل كان ذلك يكفي في وجود أفعالنا حتى لا نحتاج الى الإرادة، اذ يترجح احد الجانبين بتعلق علم الله تعالى به، وكل ذلك محال».
القرآن عالج الحقائق الفلكية
إن الفلاسفة الإسلاميين الذين ربطوا بين وجود الله وقدم العالم يتابعون فلاسفة اليونان في ذلك.
ولكن لنا ان نلاحظ ان فكرة الإله في الفلسفة اليونانية تختلف اختلافا جوهريا عن فكرة الله في الفلسفة الإسلامية، فالإله عند اليونان لن يخلق العالم، فالعالم قديم عندهم، ثم هو لا يهتم بشؤون الناس ولا يحاسبهم عن أعمالهم، في حين ان الله عند المسلمين خلق العالم، بتصريح آيات القرآن، ثم هو يهتم بشؤون الناس ويحاسبهم عن أعمالهم ويعنيه أمر العبادة والصلاة، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات 56.
وفي قوله تعالى: (ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب) إبراهيم 51، وآيات أخرى كثيرة في المضمون ذاته، فالفلسفة الإسلامية أدخلت مفهوم العناية الإلهية في قضية الوجود الإلهي، فضلا عن إدخالها لفكرة الخلق التي هي فكرة دينية خالصة كانت غائبة عن فلاسفة اليونان.
أنزل القرآن على رجل أمي هو محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، حين كان في الأربعين من عمره، وقد دلت موضوعات هذا الكتاب الكريم على ان الآيات القرآنية عالجت بعض الحقائق والأفكار حول العلوم الفلكية التي لم تكن معروفة، ولا يستطاع تخيلها بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لمعاصريه او الحضارات السائدة آنذاك.
والشيء ذاته يقال بالنسبة للآيات المتعلقة بالعلوم الأخرى. وقد أبرزت الآيات حقائق برهن عليها علم الفلك لاحقا، وحين يقتنع المرء بهذه البراهين وأن مصدر القرآن هو الله عز وجل فسيكون مستعدا لدراسته والتعامل معه على اساس انه كتاب الله جاء لنشر الهداية والنور والحكمة .. إلخ، وستكون الكلمات والآيات التي تضمنها القرآن شديدة الأهمية بالنسبة لمرامي هذا العمل ومواضيعه.
لقد أنزل القرآن قبل 14 قرنا لكل البشر في الماضي والحاضر والمستقبل. لذا ينبغي لكل جيل ان يفهم مصطلحاته بحسب معارف زمانه واذا كان المسلمون قد فهموا وكيف فهموا خلال الـ 1400 سنة الماضية، الآيات القائلة ان السموات والأرض كانتا دخانا قبل خلقهما، وكيف ستتحولان الى دخان ايضا عند انتهاء الزمان، ويعتقد الفلكيون ان المجموعة الشمسية خلقت من غبار كوني او غاز مؤلف من إشعاع وستعود غبارا ثانيا عندما تحترق وتتدمر مثل النجوم المضيئة في الفضاء. فهل هذا الدخان هو المشار اليه في القرآن المجيد؟
وبالنسبة للعالم الإسلامي، فإن ثمة من يعتقد من المسلمين، بعدم جواز إعطاء تفسير للآيات القرآنية المتعلقة بالعلوم بسبب طبيعة الفكر المتدرجة والمتغيرة والمشكوك فيها، وهم يخشون ان تتغير او تتعدل بعض الوقائع او النظريات العلمية بما قد يعارض القرآن ويهز إيمان المسلم به. وهذه المناقشة لا تؤدي الغرض المنشود من النهضة الفكرية والثقافية.
لذا اتفق المسلمون على ان فهم الإنسان المتغير واللامعصوم عن الخطأ للقرآن، ليس له أي تأثير في الكلمات التي لا تتغير أبدا ألا وهي كلمات القرآن الجليل.
وحسب المسلم ان يفهم القرآن قدر المستطاع.
وبالرغم من ان حقيقة معانيه الأصلية لا يعلمها إلا الله جل شأنه، إلا ان الإنسان مأمور من الله بأن يزيد معرفته، وعليه الاستمرار في تقديم الاجتهادات للدلالة على الرأي العلمي، كما يستدل من الآيات التي تحض على الفكر، وتدعو للتأمل. لذا لا تغدو الشروح والتفاسير لنشأة الكون إلا ان تكون نوعا من الاجتهاد وفق الخبرة المتاحة، وقدر معرفة الإنسان اللامعصومة عن الخطأ.
كتاب الله المكنون
وقد ورد في كتاب الله المكنون مجموعة من الآيات التي تشير الى نشأة الكون من بينها: (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير) العنكبوت 19 ـ 20.
(تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور، الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) الملك 1 ـ 4.
(ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم، وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) البقرة 115 ـ 117.
(ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) ـ الحجر: 14 ـ 18.
(أفلم يروا إلى ما بين إيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب) ـ سبأ: 9.
وقد ورد فعل «خلق» ومشتقاته في القرآن الكريم أكثر من 200 مرة، كما استخدمت بعض الآيات كلمات مثل البداية، يبدأ، والمنشئ، وفاطر، بادئ، كما ورد ذكر الله وهو رب الكون (المعين والرزاق والمدبر.. إلخ) في أكثر من 950 آية وغالبا بنفس الكثرة لألفاظ الله أو الرب ولهذا لا مجال لإنكار الله أو تجاهل انه سبحانه خالق السموات والأرض بأي شكل كان.
ان الله خالق قوانين الطبيعة ومدبرها، وقد استعملت لفظة آية المفردة ومشتقاتها 3820 مرة في القرآن المجيد، ولفظة آيات تعني الإشارات، والرسائل، والمعجزات، وآيات القرآن تعني «آيات الله» و«رسائل الله» الظواهر والقوى والقوانين في العلم المادي اضافة الى القوانين الأخلاقية والمبادئ الايديولوجية التي جسدتها آيات القرآن العظيم وقد أشير اليها على انها حكم الله وقضاؤه وتقديره وعرفه أو عادته أو طريقته (سنة الله).
والطبيعة البشرية أو الميل الفطري الصحيح «فطرة» ما خلقه الله، وتتمثل غاية المنهج العلمي الإسلامي وهدفه، ودراسة نشأة الكون في التعرف على الله منشئ وخالق كل شيء في الأرض وفي السماء، ومعرفة قوانينه في الطبيعة، والفعاليات البشرية، وتطبيقها وفق أوامر الله الأخلاقية.
ان الكون ليس مخلوقا من ذاته أو موجودا بذاته، فالله يوجد الأشياء بقول «كن» كخلق أول ثم يعيد تشكيلها بتأثير قوانينه في ذوات هذه الأشياء، والسماوات والأرض ما كانت موجودة في الماضي كما هي عليه الآن.
كانتا نوعا من الدخان، وعندما سينهي الله الكون أو النظام الشمسي سيعيدها دخانا تارة أخرى.
ان في الكون دقة ونظاما وتناسقا وقابلية، وليس اعتباطية أو عشوائية، وهناك حكمة وجمال وكمال في كل ما خلق الله جلت قدرته، وعندما شاء الله، جلت قدرته، ان يحدث الانفجار الكوني (الانفجار الكبير) لتفصل الأرض عن السماء ويترتب عن ذلك خلق سماوات وأراضين ومكوناتهما التي لا يحصيها الا الله وذلك مصداقا لقوله تعالى (أولم ير الذين كفروا ان السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي ان تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) ـ الأنبياء: 30 ـ 33.
ففي اللغة رتق الشيء ـ رتقا: سده أو لحمه، والفتق: الشق. يجمع العلماء والمختصون والباحثون في علوم الفلك والطبيعة وحتى الفلاسفة بأن السموات والأرض كانتا وقبل ستة عشر مليار سنة (والله أعلم) كتلة واحدة بدائية ملتصقة ذات حرارة وضغط هائلتين، وعند ازدياد الحرارة عن حد معين، وعندما شاءت قدرة الله أحدث هذا الانفجار الكوني (الانفجار الكبير)، ومع مرور مليارات السنين، وعندما انخفضت حرارة هذه الأجزاء تألفت منها ما يسمى بالغيوم الكونية أو السدم وتكون منها لاحقا النجوم والكواكب.
اما كوكب الأرض فقد تكون منذ حوالي أربعة مليارات سنة ونصف السنة (والله أعلم) كغيمة جزئية كونية انفصلت عن الكتلة الأصلية، ثم تحولت بعد ذلك المجرة اللبنية والتي تحتوي على حوالي مائة مليار نجم وكوكب منها الشمس وكواكب أخرى. ومن الكتلة البدائية كذلك تكونت مليارات من المجرات التي لا يحصيها الا الله سبحانه وتعالى.
جولة في الكون
ولقد صور سيد قطب، رحمه الله، في تفسيره «في ظلال القرآن» مكنون وفحوى هذه الآيات الجليلات على النحو التالي:
انها جولة في الكون المعروض للأنظار، والقلوب غافلة عن آياته الكبار، وفيها ما يحير اللب حين يتأمله بالبصيرة المفتوحة والقلب الواعي والحس اليقظ.
وتقريره ان السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقتا، مسألة جديرة بالتأمل كلما تقدمت النظريات الفلكية في محاولة تفسير الظواهر الكونية، فحامت حول هذه الحقيقة التي أوردها القرآن الكريم منذ ألف وأربعمائة عام.
فالنظرية القائمة اليوم هي ان المجموعات النجمية ـ كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر ـ كانت سديما ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكرية، وان الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت.
ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية يؤخذ بها اليوم وقد تدحض غدا لتبرز نظرية اخرى تصلح لتفسير الظواهر الكونية بفرض آخر يتحول الى نظرية.
ونحن المسلمون لا نحاول ان نحمل النص القرآني المستيقن على نظرية غير مستيقنة، تقبل اليوم وتنقض مستقبلا، لذلك لا نحاول ان نوفق بين النصوص القرآنية والنظريات التي تسمى علمية، وهي شيء آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة للتجربة كتمدد المعادن بالحرارة وتحول الماء بخارا وتجمده بالبرودة، الى آخر هذا النوع من الحقائق العلمية، وهي شيء آخر غير النظريات العلمية، ان القرآن ليس كتاب نظريات علمية ولم ينزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليكون علما تجريبيا كذلك، انما هو منهج للحياة كلها، منهج لتقويم العقل ليعمل وينطلق في حدوده، ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل والانطلاق دون ان يدخل في جزيئات وتفصيليات علمية بحتة، فهذا متروك للعقل بعد تقويمه واطلاق عنانه.
وقد يشير القرآن احيانا الى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما) ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن، وان كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والارض او فتق السماوات عن الارض، ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن، ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء اي نظرية فلكية، ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات البشر، وهو حقيقة مستيقنة، وقصارى ما يقال: ان النظرية الفلكية القائمة لا تعارض المفهوم الاجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال، فأما شطر الآية الثاني (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فيقرر كذلك حقيقة مهمة يعد العلماء كشفها وتقريرها امرا عظيما.
وهي حقيقة تثير الانتباه حقا وان كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا، فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره من ايماننا بأنه من عند الله لا من موافقة النظريات او الكشوف العلمية له.
عجائب صنع الله
ومنذ اكثر من اربعة عشر قرنا كان القرآن الكريم يوجه انظار الكفار الى عجائب صنع الله في الكون، ويستنكر الا يؤمنوا بها وهم يرونها في الوجود (أفلا يؤمنون)، وكل ما حولهم في الكون يقود الى الايمان بالخالق المدبر الحكيم، ثم يمضي في عرض مشاهد الكون الهائلة (وجعلنا في الارض رواسي ان تميد بهم).
فيقرر ان هذه الجبال الرواسي تحفظ الارض فلا تميد بهم ولا تضطرب، وحفظ التوازن يتحقق في صور شتى، فقد يكون توازنا بين الضغط الخارجي على الارض والضغط الداخلي في جوفها، وهو يختلف من بقعة الى بقعة، وقد يكون بروز الجبال في موضع معادلا لانخفاض الارض واستقرارها، فلنترك للبحوث العلمية كشف الطريقة التي يتم بها هذا التوازن، فذلك مجالها الاصيل، ولنكتف من النص القرآني الصادق باللمسة الوجدانية والتأمل الموحي، وبتتبع قدرة الله المبدعة المدبرة لهذا الكون الكبير، الذي ابدعه الله تبارك وتعالى جلت قدرته.
(وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون).
وذكر الفجاج في الجبال، وهي الفجوات بين حواجزها العالية، وتتخذ سبلا وطرقا، ذكر هذه الفجاج هنا مع الاشارة الى الاهتداء بصور الحقيقة الواقعة اولا ثم يشير من طرف خفي الى شأن آخر في عالم العقيدة، فلعلهم يهتدون الى سبيل يقودهم الى الايمان كما يهتدون في فجاج الجبال.
(وجعلنا السماء سقفا محفوظا).
والسماء كل ما علا، ونحن نرى فوقنا ما يشبه السقف، والقرآن يقرر ان السماء سقف محفوظ من الخلل بالنظام الكوني الدقيق، ومحفوظ من الدنس باعتباره رمزا للعلو الذي تتنزل منه آيات الله (وهم عن آياتها معرضون).
(وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون).
والليل والنهار ظاهرتان كونيتان، والشمس والقمر جرمان هائلان لهما علاقة وثيقة بحياة الانسان في الارض، وبالحياة كلها، والتأمل في توالي الليل والنهار، وفي حركة الشمس والقمر بهذه الدقة التي لا تختل مرة، وبهذا الاطراد الذي لا يكف لحظة جدير بأن يهدي القلب الى وحدة الناموس، ووحدة الارادة، ووحدة الخالق المدبر القدير تعالت صفاته.
وبعد هذا الانفجار الكوني وخلق الأرض، وعندما أراد الله ان يرفع السماء ويبسط الأرض للإنسان ليعمرها ويعيش عليها ويتعايش فيها جعل فيها أساس الاستقرار والحياة ونشر فيها الأرزاق وأساسيات المعيشة، وأرسى فيها جبال شامخات كي لا تميد وتخسف ولقد بين ذلك تعالت أسماؤه في الكتاب المكنون بقوله تعالى: (قل أئنكم لتفكرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم- فصلت: 9 ـ 12).
وقل لهم يا محمد: انكم اذ تكفرون واذ تلقون بهذه الكلمة الكبيرة في استهتار، إنما تأتون أمرا جليا، مستنكرا قبيحا، انكم لتكفرون بالذي خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها والذي خلق السماوات ونظم أمرها وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظا، والذي أسلمت له السماء والأرض قيادهما طائعتين مستسلمتين، وأنتم بعض سكان هذه المعمورة تتأبون وتستكبرون!
غدا الجمعة الحلقة 2