- الأرض كانت كرة ملتهبة في حالة غازية كالشمس .. والأرجح أنها قطعة منها وانفصلت عنها لسبب ما
- الخالق قدر الأقوات في الأرض وبارك فيها وكشف للإنسان أشياء كثيرة من بركته
- الكون كله خاضع للناموس مطيع مستسلم وليس هناك إلا الإنسان الذي لا ينقاد طائعاً طاعة السموات والأرض
خلق الأرض في يومين
تتجسد روعة الخلق في هذه الأرض التي نعيش عليها، وتشكل عظيم صنعه ونسقه.
يقول صاحب الظلال: يذكر الله تعالى حقيقة خلق الأرض في يومين، ثم يعقب عليها قبل عرض قصة الأرض، يعقب على الحلقة الأولى من قصة الأرض، (ذلك رب العالمين) وأنتم تكفرون به وتجعلون له أندادا، وهو خلق هذه الأرض التي أنتم عليها، فأي تبجح وأي استهتار وأي فعل قبيح؟ وما هذه الأيام الاثنان اللذان خلق فيهما الأرض، والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي وقدر فيها الأقوات، وأحل فيهما التربة فتمت بها الأيام الأربعة؟ انها لا ريب، أيام من أيام الله التي يعلم جلت عظمته مداها، وليست من أيام هذه الأرض والتي هي مقياس زمني مستحدث بعد خلقها، وكما للأرض أيام هي مواعيد دورتها حول نفسها أمام الشمس، فللكواكب الأخرى والنجوم أيام خاصة بها كذلك قد تكون أقصر أو أطول من أيام الأرض.
وأقرب ما نستطيع تصوره وفق ما وصل اليه علمنا البشري انها هي الأزمان التي مرت بها الأرض طورا بعد طور، حتى استقرت وصلبت قشرتها وأصبحت صالحة للحياة التي نعلمها. وهذه قد استغرقت ـ فيما تقول النظريات - نحو ألفي مليون سنة من سنوات أرضنا.
وهذه مجرد تقديرات وتكهنات علمية مستندة الى دراسة الصخور وتقدير عمر الأرض بواسطتها، ونحن في دراسة القرآن لا نلجأ الى تلك التقديرات على انها حقائق نهائية، فهي في أصلها ليست كذلك، وان هي الا نظريات قابلة للتعديل أو الدحض. فنحن لا نحمل القرآن عليها، إنما نجد انها قد تكون صحيحة اذا رأينا بينها وبين النص القرآني تقاربا، ووجدنا انها تصلح تفسيرا للنص القرآني بغير تمحل. فنأخذ من هذا ان هذه النظرية أو تلك أقرب الي الصحة لأنها أقرب الى مدلول النص القرآني.
والراجح الآن في أقوال العلم ان الأرض كانت كرة ملتهبة في حالة غازية كالشمس، والأرجح انها قطعة من الشمس انفصلت عنها لسبب ما، وانها استغرقت أزمانا طويلة حتى بردت قشرتها وصلبت. وان جوفها لا يزال في حالة انصهار لشدة الحرارة حيث تنصهر أقسى الصخور وحين بردت القشرة الأرضية جمدت وصلبت، وكانت في أول الأمر صخرية صلبة، طبقات من الصخر بعضها فوق بعض.
وفي وقت مبكر جدا تكونت البحار من اتحاد الهيدروجين والأكسجين بنسبة 2 إلى 1 ومن اتحادهما ينشأ الماء. والهواء والماء على أرضنا هذه قد تعاونا على تفتيت الصخر وتشتيته، وحمله وترسيبه، حتى كانت من ذلك تربة أمكن فيها الزرع، وكذلك الجبال والنجاد، وملء الوهاد، فلا تكاد تجد في شيء كان على الأرض أو هو كائن الا اثر الهدم واثر البناء.
ان القشرة الأرضية في حركة دائمة، وفي تغير دائم يهتز البحر بالموج فيؤثر فيها، ويتبخر ماء البحر، تبخره الشمس، فيصعد الى السماء لتتكون سحب تمطر ماء عذبا، فينزل على الأرض متدفقا فتكون السيول، وتكون الأنهار، تجري في هذه القشرة الأرضية فتؤثر فيها.
تؤثر في صخر فتحله وتبدله الى صخر آخر، وهي من بعد ذلك تحمله وتنقله فيتبدل وجه الأرض على القرون، مئاتها وآلافها، وتعمل الثلوج الجامدة بوجه الأرض ما يفعله الماء السائل، وتفعل الرياح بوجه الأرض ما يفعل الماء وتفعل الشمس بوجه الأرض ما يفعله الماء والريح بما تطلق على هذا الوجه من نار ومن نور. والأحياء على الأرض تغير من وجهها كذلك. ويغير فيها ما ينبثق فيها من جوف الأرض من براكين.
صخور القشرة الأرضية
ويخبرك عالم الأرض (العالم الجيولوجي) عن صخور هذه القشرة فيعدد لك من صخورها الشيء الكثير، متطرقا لأنواعها الثلاثة الكبرى.
يحدثك عن الصخور النارية، تلك التي خرجت من جوف الأرض إلى ظهرها صخرا منصهرا ثم برد. ويضرب لك منها مثلا بالجرانيت والبازلت.
ويأتيك بعينه منها يشير لك فيها الى ما احتوته من بلورات بيضاء وحمراء أو سوداء، وكل بلورة من هذه تدل على مركب كيماوي، له كيان بذاته، فهذه الصخور أخلاط.
إن من هذه الصخور النارية ومن أشباهها تكونت قشرة هذه الارض أثر بها الماء، هابطا من السماء أو جاريا في الارض، أو جامدا في الثلج، وقام بفعل الهواء وبفعل الريح، وقامت بفعل تغير من هذه الصخور، من طبيعتها ومن كيميائها فولدت منها صخورا غير تلك الصخور.
أما الثاني من الصخور وهي الصخور المترسبة أو الراسب، وهي تلك الصخور التي اشتقت، بفعل الماء والريح والشمس، أو بفعل الاحياء من صخورا أكثرا في الأرض اصالة وأعقد.
واسموها راسبة لأنها لا توجد في مواضعها الأولى. إنها حملت من بعد اشتقاق من صخورها الأولى، أو وهي في سبيل اشتقاق. حملها الماء أو حملتها الريح، ثم هبطت ورست واستقرت حيث هي من الأرض.
ومثال على ذلك الصخور الراسبة الحجر الجيري الذي تتألف منه الجبال وهو مركب كيماوي يعرف بكربونات الكالسيوم، وأنه اشتق في الأرض اثر عمليات حيوية او نتيجة لتفاعل كيميائي.
وكذلك الرمل انه مركب كيميائي، وانه مشتق كذلك، ومثال آخر بالطفل والصلصال وكلها من أصول سابقة. أما هذه الأصول السابقة والتي اشتقت منها تلك الصخور الراسبة، على اختلافها فهي الصخور النارية.
بدأت الارض عندما تجمد سطحها من بعد انصهار، في قديم الأزل، ولا شيء على هذا السطح المتجمد غير الصخر الناري. ثم جاء الماء، وجاءت البحار، وتفاعل الصخر الناري والماء، وشركهما الهواء، شركتهما غازات متفاعلة، وشركهما الرياح العاصفة، وشركتهما الشمس نارا ونورا.
وتفاعلت كل هذه العوامل جميعا وفقا لما أودع فيها من طبائع فتغيرت من صخر ناري صلد غير نافع، الى صخر نافع.
صخر يستخدم في بناء المساكن. وصخر لاستخراج المعادن. وأهم من هذا، بل وأوقع من هذا، أنها استخرجت من هذا الصخر الناري الصلد، الذي لا ينفع لحياة تقوم عليه، استخرجت تربة، رسبت على سطح الأرض، ومهدت لمعيشة الأحياء والخلائق.
وإن الجرانيت لا ينفع لحرث أو زرع أو سقيا، ولكن تنفع تربة هشة لينة خرجت منه ومن أشباه له. وبظهور هذه التربة ظهر النبات، وبظهور النبات ظهر الحيوان، وتمهدت الأرض لقيام رأس الخلائق على هذه الأرض، إنه الإنسان.
هذه الرحلة الطويلة كما تطرق لها العالم الحديث، قد تساعد على فهم معنى الأيام في خلق الأرض وجعل الرواسي فوقها، والمباركة فيها، وتقدير أقواتها في أربعة أيام من ايام الله التي لا نعرف ما هي؟ وما طولها؟ ولكننا نعرف أنها غير أيام هذه الأرض حتما.
الجبال الرواسي
ونقف لحظة أمام كل فقرة من النص القراني قبل أن نغادر الأرض الى السماء، (وجعل فيها رواسي من فوقها) وكثيرا ما ترد تسمية الجبال بالرواسي وفي بعض المواضع يعلل وجود هذه الرواسي أن تميد بكم أي انها هي راسية، وهي ترسي الأرض وتحفظ توازنها فلا تميد.
وغبر زمان كان الناس يحسبون أن أرضهم هذه ثابتة راسخة على قواعد متينة ثم أتى زمان ومن خلال معطيات العلم الحديث وأجهزته ومعداته ليثبت لنا ان ارضنا هذه ان هي الا كرة صغيرة سابحة في فضاء مطلق، لا تستند الى شيء.
وقد يفزع البعض من ذلك خيفة من ان تتأرجح به الأرض أو تسقط في أعماق الفضاء. بيد أن يد الله تمسكها أن تزول هي والسماء.. (ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) إنس أو جان أو مجتمعين.
وعلينا أن نستيقن من أن النواميس التي تحكم هذا الكون متينة وهي، لا ريب، من صنع القوي العزيز.
يذكر القرآن الكريم الجبال ويسميها «رواسي»، وأنها كذلك ترسي الأرض فلا تميد. ولعلها أيضا تحفظ التناسق بين القيعان في المحيطات والمرتفعات في الأرض فتتوازن فلا تميد.
إن كل حدث يحدث في الأرض، في سطحها أو فيما دون سطحها، يكون من أثره انتقال مادة من مكان إلى مكان آخر، فيؤثر في سرعة دورانها، فليس المد والجزر هو العامل الوحيد في ذلك، إذ إن ما تنقله الأنهار من مائها من ناحية في الأرض إلى ناحية أخرى قد يؤثر في سرعة الدوران، وما يتنقل من رياح يؤثر في سرعة الدوران، وسقوط في قاع البحار، وبروز في سطح الأرض هنا أو هناك يؤثر في سرعة الدوران، ومما يؤثر في سرعة الدوران أن تتمدد الأرض أو تنكمش بسبب ما، ولو انكماشا أو تمددا طفيفا لا يزيد في قطرها أو ينقص منه إلا بضع أقدام.
فهذه الأرض الحساسة إلى هذا الحد، لا عجب أن تكون الجبال الرواسي حافظة لتوازنها ومانعة (أن تميد بكم) كما جاء في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا.
(وبارك فيها وقدر فيها أقواتها)، وقد تنقل هذه الآية الجليلة إلى أذهان أسلافنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد والبترول وما إليها، فأما اليوم وبعدما كشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها على أزمان طويلة، فإن مدلول الآية الفقرة يتضاعف في أذهاننا، لا تثريب في ذلك.
وقد لمسنا كيف اتحدت عناصر الهواء فكونت الماء، وكيف تعاضد الماء والهواء والشمس والرياح فكونت التربة الصالحة للزرع، وكيف تشارك الماء والشمس والرياح فكونت الأمطار أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وانهار باطنة تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار، وهذه كلها من أسس البركة ومن أسس الأقوات التي قدرها مالك الملك سبحانه، وهناك أيضا الهواء الذي يستنشقه الإنسان والكائنات.
إن الأرض كرة تلفها قشرة من صخرة، وتلف اكثر الصخر طبقة من ماء، وتلف الصخر والماء جميعا طبقة من هواء، وهي طبقة من غاز سميكة كالبحر، لها أعماق، ونحن بني الإنسان، والحيوان، والنبات، نعيش في هذه الأعماق هانئين بالذي فيه.
فمن الهواء نستمد أنفاسنا من أكسجينه، ومن الهواء يبني النبات جسمه من كربونه، بل من ثاني أكسيد كربونه يبني النبات جسمه، ونحن نأكل النبات، ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات، ومن كليهما تبنى من تناولها أجسامنا، بقي من غازات الهواء النتروجين (الأزوت) فهذا لتخفيف الأوكسجين حتى لا نحترق، وبقي بخار الماء وهذا لترطيب الهواء، وبقيت طائفة من غازات أخرى تتواجد فيه بمقادير قليلة مثل الأرجون والهيليوم والنيون وغيرها.
والمواد التي نأكلها والتي تنتفع بها في حياتنا ـ والأقوات أوسع مما يؤكل في البطون ـ كلها مركبات من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو في جوها سواء، فعلى سبيل المثال ما هو السكر؟ انه مركب من الكربون والهيدروجين والأوكسجين.
علمنا تركيب الماء من الهيدروجين والأوكسجين، وهكذا فإن كل ما نستخدمه من طعام أو شراب أو لباس أو أداة إن هو إلا مركب من بين عناصره هذه الأرض المودعة فيها.
فهذا كله يشير إلى نبع إلى من البركة وشيء من تقدير الأقوات، في أربعة أيام، فقد تم هذا في مراحل زمنية متطاولة، هي أيام الله، التي لا يعلم مقدارها إلا الله تلألأت أسماؤه.
(ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ـ فصلت: 11 و12).
والاستواء هنا القصد، والقصد من جانب الله تعالى هو توجه الإرادة وثم قد لا تكون للترتيب الزمني، ولكن للارتقاء المعنوي، والسماء في الحس ارفع وأرقى.
(استوى إلى السماء وهي دخان) ان هناك اعتقادا انه قبل خلق النجوم كان هناك ما يسمى السديم، وهذا السديم غاز أو دخان.
والسدم ـ من نيرة ومعتمة ـ ليس الذي بها من غاز وغبار إلا ما تبقى من خلق النجوم، ان نظرية الخلق تقول: إن المجرة كانت من غاز وغبار، ومن هذين تكونت بالتكثف النجوم، وبقيت لها بقية، ومن هذه البقية كانت السدم، ولايزال من هذه البقية منشرا في هذه المجرة الواسعة مقدار من غاز وغبار، يساوي ما تكونت منه النجوم، ولاتزال النجوم تجر منه الجاذبية اليها، فهي تكنس السماء منه كنسا، بيد ان الكناسين ورغم اعدادهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسة من ساحات اكبر واشد هولا.
(ثم استوى الى السماء وهي دخان) اذ ان خلق السماوات تم في زمن طويل، في يومين من ايام الله.
إيماءة عجيبة
ثم نقف امام الحقيقة الهائلة: (ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا او كرها قالتا اتينا طائعين- فصلت: 11)، انها ايماءة عجيبة الى انقياد هذا الكون للناموس، والى اتصال حقيقة هذا الكون بخالقه اتصال الطاعة والاستسلام لكلمته ومشيئته، فليس هناك اذن الا هذا الانسان الذي يخضع للناموس كرها في اغلب الاحيان، انه خاضع حتما لهذا الناموس، لا يملك ان يخرج عنه، وهو ترس صغير جدا في عجلة الكون الهائلة، والقوانين الكونية الكلية تسري عليه رضي ام كره، ولكنه هو وحده الذي لا ينقاد طائعا طاعة الارض والسماء، اذ يحاول ان ينفلت، وينحرف عن المجرى الهين اللين، فيصطدم بالنواميس التي لابد ان تتغلب عليه ـ وقد تحطمه وتسحقه ـ فيستسلم خاضعا غير طائع، الا عباد الله الذين تصطلح قلوبهم وكيانهم وحركاتهم وتصوراتهم واراداتهم ورغباتهم واتجاهاتهم فإنها تصلح كلها وتنقاد للنواميس الكلية، فتأتي طائعة، وتسير هينة لينة، مع عجلة الكون الهائلة، متجهة الى ربها مع الموكب، متصلة بكل ما فيه من قوى، وحينئذ تصنع الاعاجيب، وتأتي بالخوارق لكونها قد اصطلحت مع الناموس، مستمدة من قوته الهائلة، وهي منه وهو مشتمل عليها في الطريق الى الله «طائعين».
اننا نخضع كرها، فما ضرنا لو نخضع طوعا، ليتنا نلبي تلبية وفق الارض والسماء في رضا وفي فرح باللقاء مع روح الوجود الخاضعة المطيعة الملبية المستسلمة لله رب العالمين.
علينا ان نقر وتطمئن نفوسنا بأن عجلة القدر تدور بطريقتها وبسرعتها ولوجهتها، وتدير الكون كله معها وفق سنن، ويأبى الانسان الا ان نسرع، او ان نبطئ، نحن من بين هذا الموكب الضخم الهائل، وبما يطرأ على نفوسنا ـ حين تنفك عن العجلة وتنحرف عن خط السير ـ من قلق واستعجال وانانية وطمع ورغبة ورهبة، ونظل نشرد هنا وهناك والموكب ماض، ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم، ونصطدم هنا وهناك ونتحطم، والعجلة ماضية في سرعتها وبطريقتها الى وجهتها وفق امر الخالق جلت اسماؤه وقدرته.
وتذهب قوانا وجهودنا كلها سدى وهباء منثورا، الا ان تؤمن قلوبنا حقا، وتستسلم لله حقا، وتتصل بروح الوجود حقا، فإننا ـ حينئذ ـ نعرف دورنا على حقيقته، وننسق خطانا وخطوات القدر، ونتحرك في اللحظة المناسبة وبالسرعة المناسبة، وفي المدى المناسب، نتحرك بقوة الوجود كله المستمدة من خالق الوجود ونصنع اعمالا عظيمة فعلا دون ان يدركنا الغرور، لأننا نعرف مصدر القوة التي صنعنا بها هذه الاعمال العظيمة، ونوقن انها ليست قوتنا الذاتية، انما هي كانت هكذا لأنها متصلة بالقوة العظمى، قوة العظيم القدير الجبار.
ويا للرضا، ويا للسعادة، ويا للراحة، ويا للطمأنينة التي تغمر قلوبنا يومئذ في رحلتنا القصيرة، على هذا الكوكب الطائع الملبي، السائر معنا في رحلته الكبرى الى ربه في نهاية المطاف.
أهنالك سلام بعد سلام تفيض فيه ارواحنا ونحن نعيش في كون مسخر كله مستسلم لربه، ونحن معه مستسلمون لا تشذ خطانا عن خطاه، ولا يعادينا ولا نعاديه، لأننا منه ولأننا معه في الاتجاه (قالتا أتينا طائعين)، (فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها).
واليومان قد يكونان هنا اللذين تكونت فيهما النجوم من السدم، او تم فيهما التكوين كما يعلمه الله، والوحي بالامر في كل سماء يشير الى اطلاق النواميس العاملة فيها، على هدى من الله وتوجيه، اما ما هي السماء المقصودة فلا نملك تحديدا، فقد تكون درجة البعد سماء، وقد تكون المجرة الواحدة سماء، وقد تكون المجرات التي على أبعاد متفاوتة سماوات، وقد يكون غير ذلك، مما تحتمله لفظة سماء، وهي كثيرة لا جرم.
(وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا).
والسماء الدنيا هي كذلك ليس لها مدلول واحد محدد، فقد تكون هي اقرب المجرات الينا وهي المعروفة بسكة التبانة والتي يبلغ قطرها مائة ألف مليون سنة ضوئية.
وقد يكون غيرها مما ينطبق عليه لفظ سماء، وفيه النجوم والكواكب المنيرة لنا كالمصابيح.
«وحفظا» من الشياطين كما يدل على هذا ما ورد في المواضع الأخرى من القرآن. (ذلك تقدير العزيز العليم).
وهل يقدر هذا كله، ويمسك الوجود كله، ويدبر الوجود كله، إلا العزيز القوي القادر؟ وإلا العليم الخبير بالموارد والمصادر؟
ولا غرو إذن أن يتجلى العديد من علماء المسلمين، وفي شتى التخصصات، لدراسة الآيات والاشارات القرآنية ذات الدلالة والعلاقة بالكون ومكوناته، ولقد ساعد تقدم العلوم والمعرفة العلمية واستكشاف الاجهزة والمعدات وآلات الرصد والمقربات، واخيرا استخدام الاقمار الصناعية والمكوكات على التوصل الى العديد من الحقائق وتصوير الكون ومكوناته من ارجاء وزوايا مختلفة.
وحتى الشعراء تفتحت قريحتهم وتطلعاتهم، على حد سواء، مع العلماء لمعرفة المجهول في الكون الفسيح.
وفي أبيات للشاعر العباسي ابن الشبل يعكس فيها هذه التساؤلات:
بربك أيها الفلك المدار
أقصد ذا المسيري أم اضطرار
مدارك قل لنا في أي شيء
ففي أفهامنا منك انبهار
اجتهادات وتأملات
نستعرض بعضا من هذه الاجتهادات والتأملات في الكون ونواميسه ومحتوياته، والتي تدل دلالة قاطعة على أن وراء كل ذلك خالقا مبدعا قادرا على كل شيء.
٭ تدور الكرة الأرضية حول نفسها مرة كل 24 ساعة، ولو أكملت الأرض هذه الدورة في مدة أطول لطال نهارنا وطال ليلنا ولهلك الناس من حر ومن برد.
ولو دارت الارض حول نفسها في مدة اقصر لقصر نهارنا وليلنا علاوة على ان هذا الاسراع في الدوران يؤدي إلى تفكك الارض وتناثر اجزائها وكل شيء على سطحها نظرا لتغلب القوة المركزية الطاردة على الجاذبية.
ولقد اتضح علميا ان مدة الدوران الحالية للأرض حول نفسها تساعد على التوزيع المنتظم العادل للمياه والرياح على سطح الأرض، كما ان ميل محور دوران الأرض يسبب ظاهرة تتابع الفصول من ربيع وصيف وخريف وشتاء مما يؤدي إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للمعيشة من سطح كوكبنا ويزيد من اختلاف الانواع النباتية.
٭ لو كان سمك قشرة الأرض أكبر مما هو عليه بضع أقدام لحدث امتصاص لغازي ثاني أكسيد الكربون والأكسجين الموجودين في الجو بواسطة هذه الزيادة ولاستحال نشوء النبات اللازم للحيوان والإنسان. ولو انطلق الهيدروجين خارج الغلاف الجوي للأرض لاتحد عند نشأتها بالأكسجين الموجود بالأرض ولأصبح الماء المتكون يغطي كل سطح الأرض لعمق أميال.
بيد أن الماء الموجود الآن والذي يغطي ثلاثة أرباع سطح الأرض فقط هو الكمية اللازمة تماما لعملية التوازن الحرارية على سطح الأرض. وهذه الكمية ثابتة بسبب الدورة المستمرة لمياه الامطار، فإذا تبخر جزء من الماء من سطح الأرض عاد اليها من السماء على هيئة أمطار.
٭ ينتشر المجال المغناطيسي للأرض إلى ارتفاع يجعل الجسيمات الذرية النشطة الفاتكة القادمة من الفضاء الخارجي تقع في مصيدة هذا المجال فتدور في أحزمة بعيدة عن سطح الأرض تم كشفها حديثا ودعي أحزمة «فان ألن» الاشعاعية وبهذا لا تتعرض الحياة على سطح الأرض للخطر.
٭ يمتاز كوكب الارض بوجود الماء، وخواص الماء الطبيعية أذهلت العلماء، فالماء يمكن أن يوجد في الصور الثلاث للمادة في درجات حرارة الارض على هيئة بخار يختلط بالهواء أو سائل في البحار والمحيطات والانهار، أو صلب في أعالي الجبال وقمم السحب.
والماء أكثر السوائل المعروفة إذابة لغيره من العناصر والغازات والمركبات، وهو بذلك يلعب دوا كبيرا في العمليات الحيوية داخل اجسامنا بوصفه مركبا اساسيا من مركبات الدم، ويساعد الماء على امتصاص المواد الغذائية بواسطة الكائنات الحية من نبات أو حيوان أو إنسان.
وللماء قدرة على اختزان الحرارة حيث يمتصها ببطء ويفقدها أيضا ببطء ولهذا فهو أعظم منظم لدرجة الحرارة على سطح الأرض، ولولاه لتضاءلت صلاحية الأرض للحياة الى حد الانعدام فلا عجب اذن من قوله جلت قدرته (وجعلنا من الماء كل شيء حي).
الدوران ظاهرة كونية تشمل كل شيء، فالإلكترون يدور حول النواة، والأقمار تدور حول كواكبها، والكواكب تدور حول شموسها، والشموس (النجوم) تدور حول مجراتها بل والطاقة تدور في مساراتها، لذا فإن حكمة الدوران (الطواف) حول الكعبة انما هي رمز للظاهرة التي فطر الله عليه الكون كله، لأن الطواف سنة الله الواحد الأحد في هذا الكون.
الجاذبية العامة قانون كوني موجود في طبيعة الأشياء كلها، ويعمل في صمت في الأرض والسماء، وينص هذا القانون على ان أي كتلتين في الوجود بينهما قوة جذب، وهذه القوة تتناسب طرديا مع حاصل ضرب الكتلتين المتجاذبتين، وعكسيا مع مربع المسافة الفاصلة بينهما، أي ان قوة الجاذبية تزداد بازدياد كل من الكتلتين وتنقص بنقصهما، بينما تزداد هذه القوة كلما قصرت المسافة وتقل بازدياد المسافة طبقا لما يسمى بقانون التربيع العكسي.
ولقد كان لنيوتن في عام 1687م السبق في اكتشاف قانون الجاذبية، حيث بين أنه لأمر غير مفهوم ان نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس وهي تشد أي تجذب مادة أخرى دون أي رباط بينهما.
ولقد بحث علماء آخرون تجارب للتحقق من اثر الكتلة والمسافة في قوة الجذب، وتعمل الجاذبية في كل الأشياء كبيرها وصغيرها، فالكل يتجاذب وان لم يظهر الا اثر الكبير في الصغير، فالشمس تجذب الأرض، والأرض تجذب القمر، بل وتجذب كل شيء قريب منها بقوة قد نشعر بها، والإنسان ذلك ذاته سجين الجاذبية لأنه لا يستطيع ان يرتفع عن الأرض لأنها تجذبه اليها، والإنسان يجذب الأرض ولكن شتان ما بين كتلته وكتلة الأرض، ورغم هذا الجذب فالإنسان يستطيع التحرك على الأرض نظرا لضآلة قوة الجذب بينه وبين الأرض، انه قانون إلهي، لا ريب.
فالطائر عندما يموت يقع على الأرض، ورفع الحجر عن الأرض يتطلب مجهودا والصعود على الجبل أشق من النزول منه بسبب الجاذبية. ومن فضل الله علينا ان الجاذبية الأرضية قد احتفظت لنا بغلاف جوي يحيط بأرضنا ولولا هذه الجاذبية لهرب الهواء وانعدمت الحياة على كوكبنا.
وعلى قدر ضآلة قوة الجاذبية على الأرض، فهي جبارة عارمة في السماء حيث الكتل عظيمة هائلة تتماسك رغم تباعدها بفضل قوة الجذب التي تمسك أجرام السماء وتمنعها من الانفراط لأن مدير الكون لم يأمر بعد بانفراطها وقوة الجاذبية هي القوة غير المرئية التي يعتمد عليها بناء السماء كما في قوله تعالى: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها) ـ الرعد: 2.
أي ان السماوات مرفوعة بأعمدة لا ترى. وهذه الأعمدة قد تكون إشارة واضحة على قوة الجاذبية غير المرئية والتي اكتشفها العلم الحديث بعد نزول القرآن بأكثر من ألف عام ولنتأمل في قوله تعالى (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها) ـ النازعات: 27.
غدا السبت الحلقة الأخيرة