بدأت الديوانية قبل زهاء خمسة عقود بعدد لا يتعدى أصابع اليد، يجتمعون ليلا للسمر والأحاديث دون أن تكون هنالك خدمات ضيافة وخلافها، يكون جلوسهم وتجمعهم على الرصيف.
ديوانية أفلت.
وخلال ثلاث سنوات بدأ العدد يزداد ليضم نخبة من أهل الكويت لذات السبب الذي فتحت الدواوين من اجله، لاسيما أن النشاط الرياضي قد بدأ يسطع ليكون مناسبة للرواد للتقابل مع الرياضيين بسمر وأنس وضيافة.
ديوانية أفلت.
بعدها بسنوات معدودة انتقلت الديوانية الى منطقة مجاورة وازداد الرواد وتعاظمت الزيارات، إذ انها ضمت شتى طوائف المجتمع ونخبة من اهل الكويت وصفوتها.
ديوانية أفلت.
جمعت السني والشيعي والحضري والبدوي وحامل شهادة الابتدائية مرورا بحملة الماجستير والدكتوراه ومنهم من كان له صولات في المحافل العلمية وبراءات الاختراع.
ديوانية أفلت.
لم تشهد الديوانية ولم يسمح روادها بأن يتناول او يتغامز او ينبذ احد الآخر لعقيدته او طائفته او لمستوى تعليمه.. الخ.
ديوانية أفلت.
بدأت الديوانية تزهو وعملت جداول عشاء الخميس ونداء الجمعة وغداء العيدين وغبقات رمضان حتى اتت ايام لا تجد فيها موضع قدم.
فكان الحب والوئام والتحدي الرياضي والنزعة السياسية الوطنية وصفات اخرى هي ما اتسمت به الديوانية وروادها.
ديوانية أفلت.
ولمكانتها السياسية والعلمية والاجتماعية، بدأت بؤرة خير يرتادها من الشيوخ والوزراء واعضاء مجلسي الامة والبلدي وغيرهم ليسمعوا ولتتلذذ اذانهم بمناقشات هدفها صالح البلد او لرأي قانوني.
ديوانية أفلت.
لم تقتصر الديوانية في استقبالها على أهل الكويت فقط، فكانت مزارا للعرب وغير العرب يستأنسون بما في الديوانية من خدمات وبمناقشات فاقت سوق عكاظ، تمتد حتى منتصف الليل، وما ان يغيب احد الرواد في اجازة او مهمة للدولة الا ويعد له الرواد متى يعود.
ديوانية أفلت.
ومع مرور الزمن، أصبحت الديوانية يتبوأ روادها مناصب وزارية وعلمية وفي السلطة التنفيذية والخدمات الصحية، حيث وجد العديد من الناس مبتغاهم وحل مشاكلهم ومساعدتهم وحاجاتهم الطبية وغيرها تقدم أو يمدوا روادها بالخدمات، اما توافر الادوية فحدث ولا حرج، لكل من يبتغيها.
ديوانية أفلت.
أسر العديد من شخصيات البلد لروادها بان مثل هذه الديوانية هي فخر وعزة للكويت، واهلها، وعلى روادها الاستمرار فيها والمحافظة عليها.
ديوانية أفلت.
اصبح رواد الديوانية اسرى الديوانية في ايام الجمع، حيث يباشرون الحضور من الصباح وبعد الصلوات الى العصر ليذهبوا الى سوق المباركية ليشموا عبق الكويت وليلا الى مطاعم عيسى الغانم سابقا مقابل الابراج لينصرفوا الى بيوتهم بعد قضاء نصف اليوم.
ولقد زاد من هذا الترابط تعارف وتعاون وتودد أزواج وأولاد روادها بين بعضهم وبعض، مكونين ديوانيات مشابهة مصغرة.
ديوانية أفلت.
كان اهل الرواد مطمئنين الى ان وجود ازواجهم واولادهم في مثل هذا المأوى ليكونوا في مأمن وللتزود بالعلم والمعرفة.
ديوانية أفلت.
وعند انتخابات المجلسين الامة والبلدي تعج بالمرشحين والناخبين في مناقشات فياضة، وعند بروز استجوابات كانت السلطة التنفيذية تتشوق لسماع رأي الديوانية في ذلك، وكان احد روادها ذا شعبية وبعد اجتماعي خارق افتخرت به الديوانية وساعد في حل المشاكل والهموم.
ديوانية أفلت.
أصبحت وغدت وأمست نورا ومنبرا للعلم وملجأ للمحتاج ونصيرا للضعيف، وحتى لحل مشاكل الرواد عندما تنشب مع عائلتهم مشاكل.
ديوانية أفلت.
ومع شديد الأسى بأنه وعندما عم الطمع وغرور الدنيا وزيفها النفوس، بدأت الخلافات وتلتها مقاطعة الديوانية، الا من رهط استمروا بها حتى هدمت، واصبح لا احد يرى الآخر الا ما ندر وفي مناسبات اجتماعية، فأضحوا الغرباء بعد ان كانوا توأم روح.
ديوانية أفلت.
اقف على مكانها وقد اضحت ترابا، وأتحسر وتمتلئ المآقي بالدمع، وتتقطع الأنفاس، أن أرى حطام ديوانية كانت زاهرة في الكويت لخمسة عقود.
ديوانية أفلت.
وما نقول إلا ما قال سيدنا يوسف لوالده سيدنا يعقوب عليهما السلام بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي بقوله: وتلك الأيام نداولها بين الناس.
والقول «دوام الحال من المحال».
[email protected]