[email protected]
نرى في مجتمعنا اليوم «المادحين» يسارعون إلى مدح من يرون أنه سبب في تحقيق مصالحهم! ولهذا وضعت عنوان المقال مثلنا الشعبي «ما يمدح السوق إلا من ربح فيه»، لأننا نعيش زمن المدح والمداحين، وهناك وقفة غير متعجلة أمام هذا المنظر، فإن كان حقا فعلينا أن نسكت، وهذا موقف «حق» لأن «المدح» هنا أمر مستحق حسبما ظهر، وإن كان باطلا، ولأن المستفيد هو «نفسه»، فإننا نزجره.
أنا دائما أقرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «اذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» رواه مسلم، وهو حديث صحيح وتطبيقه صعب هذه الايام بعد ان «كبر المشهد» وكثر المداحون، فأصبح الغالب السكوت عن المادح، فلا توبيخ على الاقل!
المقصود من هذا عدم المبالغة والكذب في المدح، وليس كل مادح يحثى في وجهه التراب، انما يحثى في وجوه المداحين! ومداح صيغة مبالغة أي من يكثر منه.
سلف هذه الأمة، رضي الله عنهم، كان اذا بلغ أحدهم المدح قال: «اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون».. الله أكبر، اقرأوا وتمعنوا في الالفاظ والجمل ومعانيها، وبعضهم كان يبكي مما قاله المداحون عنه.
وتذكر اذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك، فلا تأمن ان يقول فيك من الشر ما ليس فيك!
في الحياة قابلت أناسا عظماء في حقيقة الامر لا يعيرون المدح التفاتة ويواصلون رسالتهم كما هم دون تأثر بهذا الاطراء.
ومضة: في هذه الازمنة عزف الناس عن الكتاب والسنة في المدح وغيره حتى اصبحت هذه السنة غريبة، ومن يطلب احياءها اغرب (امثالي) وهم ولله الحمد كثر.
وليس هناك ما يقارن في «المديح النبوي» وغيره وايضا الشعراء الذين مدحوا النبي صلى الله عليه وسلم عبر العصور.. اقرأوا البيت وتمتعوا ما قاله الفرزدق في المديح النبوي:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
أو ما قاله كعب بن زهير في قصيدته المشهورة التي عرفت بـ«البردة» والتي أولها:
ان الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
المداحون موجودون قدم التاريخ، وهؤلاء المداحون يسارعون الى مدح من يرون انه سبب في تحقيق مصالحهم، فلا يضيعون الفرصة ولو على حساب دينهم، فيمدحون الناس بما ليس فيهم بألفاظ منمقة وبعبارات «غلو» مرفقة، وكأن الدنيا بين أيديهم معلقة!
وقفت أمام قصائد المتنبي في مدح سيف الدولة الحمداني:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
آخر الكلام: من يعترض اليوم على «ظاهرة» المدح المتكلف ربما تصيبه العبارات ويسكب العبرات لأنه قال كلمة حق فيكثر حوله الراغي والمزبد والعاتب بغير لطف!
واليوم نعيش للاسف في زمن «زاد فيه المداحون» واصبح وجودهم مطلبا وقربهم بلسما بعيدا عن الشامتين والهجائين!
زبدة الحچي: المدح المقبول ينطق به أهل الحق، وينبغي ان يراعي المادح امورا مهمة، اولها ان المدح والثناء يؤدي الاخلال بهما الى مفاسد على الممدوح والمادح معا اذا كان في الامر مبالغة، يقول الشاعر:
افادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
في زمن المدح والمدحة والامدوحة والمدائح والاماديح، احب ان اوضح ان هناك فرقا بين المدح والحمد والشكر، فالحمد الكامل بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، والشكر لا يكون الا على المتعدية، ويكون بالجنان واللسان والاركان.
وتذكروا مني هذه النصيحة دائما: عندما تريد ان تمدح او تزكي قل: «أحسب كذا وكذا، ان كان يرى انه كذلك، والله حسيبه ولا أزكي على الله احدا».
مشهد الحياة امامك والصورة التي ذكرتها امامك، فإما ان تنطق بالحق وتحثو التراب، او تلزم الصمت لتموت بالسكتة المدحية!