[email protected]
على مدى اكثر من نصف ساعة استمعت في اذاعتي الرائعة والمفضلة B.B.C العربية حوارا رائعا مع المخرج جواد الأسدي ضمن برنامج «المشهد» الذي تعده المذيعة المتألقة والمتمكنة جيزيل خوري، التي لها دائما فريقان، الاول معجب بشخصها وطريقة حوارها، وآخر على النقيض تماما يناكفها، ويوجه لها كيلا من الاتهامات!
أما أنا فأراها فارسة «ميكرفون» على الهواء وقديرة وواثقة وأحب أداءها وحوارها الرائع دائما.
جيزيل خوري اللبنانية ـ الفرنسية طبعا هي زوجة سمير القصير والذي تزوجها بعد قصة حب معروفة، وحتى اغتياله في العام 2005 بقلمه المعارض للنظام السوري الذي هيمن على الساحة اللبنانية حينذاك، وقد خلد ذكراه الاتحاد الاوروبي بتخصيص جائزة للباحثين والصحافيين في العام 2006.
جيزيل قامت بعشرات المقابلات مع القادة والساسة والرموز واصحاب الحراك السياسي ومنهم الاخ مسلم البراك ـ بوحمود ـ ولعل سقطة جيزيل الاعلامية اراها عندما قامت بعمل مقابلة مع ريبال الاسد نجل رفعت الاسد وهي هنا اعتقد «دخلت المحظور»، لأنها اتهمت بتلميع صورة قتلة زوجها سمير القصير ومعاداة الثورة السورية، ربما هذا بالضبط المثلب، لكن تبقى اعلامية تملك الخبرة والحنكة والنجومية، وافضل بكثير من بعض مذيعاتنا اللاتي يعتقدن ان النجاح في لبس المجوهرات والالماس وغالي الثياب ونفخ الشفايف!
ومضة: بعد قراءتي لتاريخه، استطيع ان اقول انه «ديكتاتور مسرحي» مفتون وعاشق لمزج الثقافات، وجواد الاسدي في مقابلته كان عربيا أُعده من النخب الثقافية، وهو من «بقايا العراقيين الشيوعيين اليساريين» الذين هربوا في السبعينيات من العراق الى الدول المجاورة او الاتحاد السوفييتي حينذاك ومنظومته مثل بلغاريا ورومانيا والمجر وپولندا، واللجوء الى سورية (احتضنته) وليبيا واليمن وغيرها من الدول، وهو مسكون بحالة من الألم والعذاب والجلد بسبب بلده العراق وربما هذا كله لتأثره بشاعره الإسباني «لوركا» والذي اعدم في زمن فرنكو وطغمته العسكرية!
اكثر من مرة استمعت لحديث الاستاذ جواد الاسدي، الكاتب والمخرج والممثل والمسرحي، ووجدت في حديثه سردا تلقائيا غير مصطنع بمفردات عربية وعراقية (مقنع لمستمعه)، واستطاع هذا الفنان العراقي القدير المولود في مدينة كربلاء في العام 1947 ان يُجسد «هاملتية» نسبة لهامليت على جميع الاحداث التي قدمها بقلب موجوع ألما وناصحا في استشرافه للمستقبل، خاصة انه يعتبر كل النصوص العالمية طالعة من (ارثه الشخصي) بدءا من ملحمة جلجامش وكل الاساطير الموروثة لبلاد الرافدين.
ولا عجب ان يحصل على اكثر من جائزة مثل جائزة الامير كلاوس الهولندية للمسرح في العام 2004 وايضا اقدر له الدور البطولي الذي تحمله على مدار اكثر من 14 عاما في تعضيد المسرح الوطني الفلسطيني بعد عودته من بلغاريا، وله العديد من المؤلفات مثل المسرح الفلسطيني، خشبة النص، مرايا مريم، الام ناهدة الرماح، الموت نصا، المسرح جنتي، العاشوريون.
آخر الكلام: أكيد هذا الرجل يعتبر من الافذاذ في المسرح العربي على مستوى الاخراج والكتابة، وله اعمال تدخل العالمية مثل ثورة الزنج، الحفارة، ليالي الحصاد، مقهى ابو حمده، المجنزرة، الاغتصاب، الخادمتان، حمام بغدادي، ونساء الساكسوفون والاكيد انه (مهووس مسرحي)! بغض النظر عن جيزيل خوري وجواد الاسدي تتفق أم تختلف معهما، إلا أن حوارهما كان رائعا مدويا!!
زبدة الحچي: يحلم المخرج جواد الاسدي بتقديم ملحمة كربلاء بعيدا عن التعصب المذهبي في مسرح التنوير الذي يحاول تثبيته على ارض الواقع.
مخرج وممثل وكاتب وناقد مخضرم عمل سنوات عمره كي يطبق افكاره المسرحية على ارض الواقع الذي يترنح فيه «المسرح» في حضرة طغيان الجهل والحروب، والامر كله يحتاج الى وعي اجتماعي، وارى ان توجه له دعوة لحضور فعاليات مهرجان القرين او اي دعوة خاصة بالمسرح، لأننا في هذه المرحلة بحاجة الى «المثقفين المسرحيين العرب» وهو اكيد واحد ممن يحاولون القفز الى التطور النوعي في المسرح.. جواد الاسدي، المذيعة جيزيل خوري، شكرا لكما ولذاكرتكما المشتركة التي عانت من الحرب ونتائجها، وآثارها المروعة على أمة العرب المكروبة، وصدق عمرو بن معد يكرب الذي قال:
شمطاء جزت رأسها وتنكرت
مكروهة للشم والتقبيل
ما احوجنا في هذه المرحلة لعودة المسرح المدرسي وكل انواع المسارح لأن المسرح ابو الفنون ويجمع الآداب والفنون، ويكفي ان مرجعه الى الاغريق والرومان.. استشرفوا به المستقبل خاصة بعد مقولة جواد الاسدي: ان العمل المسرحي بشكل احترافي يتطلب «طفولة وبراءة ولعبا نقيا»! وهذا ان يكون مسرحك رحبا ومفتوح الافق!
هذا هو جواد الاسدي.. الذي استمعت لحواره عن بعد وتأثرت بما قال لأنه يبقى «عربيا يحمل حلما مسرحيا» ولحياة ثقافية بعيدا عن ازيز الطائرات ودوي البراميل البارودية والهمجية.. سلام!