[email protected]
تذكرون كتبت «أُم الأيتام من ينصرك»؟
ردت الأستاذة رقية الحجري على مناشدتي بالظهور والرد بعنوان: النزوح!
أترككم مع أم الأيتام في اليمن تقول في ردها علي:
نتحدث أو نصف مأساة الوضع الحالي الذي نعيشه، فقد أصبحنا نعيش وضعا لا تعبر عنه كل أحرف الألم ولا يخلو من الآهات أو التعبيرات التي تنقل أو تصور الواقع الذي أمامنا يتحطم، يوماً عن يوم نزداد سوءا وألماً وهموما يتمزق أمام أعيننا الحب المسمى بحب الوطن، لم نكن ندرك حينها أننا سنفقد كل ما حولنا في لحظة ما، أحداث جعلتنا في البداية نعيش ذهولا وهلعا متواصلين نترقب الفرج، كنا بداية الحرب نسمع القصف فنهرع جميعا في هلع نحو السراديب التي تكتظ بأصوات بكاء الصغار وصراخ الأطفال الذين لا تحتمل طفولتهم كل هذه المشاهد ولا أعينهم البريئة هول هذه المناظر، يعجز اللسان عن وصف ذلك الواقع، نشعر بحصار وجداننا قبل أن نصفه في مجتمعنا، لم نكن نعلم من قبل حجم مجتمعنا الكبير، فما كنا نحسبه أن مجتمعنا هو عالمنا الصغير الذي نعيش حدوده في مؤسستنا الحبيبة التي نعدها هي موطننا الكبير، ثم توسعت نظرتنا خلال بداية الحرب حين أصبحنا نبحث عن أي مكان يحقق أمانا أكثر لهذه الطفولة.
وخلال سفرنا لمحافظة أخرى هروبا من الرعب والقصف والاقتتال، كنا نلمح الملامح التي تظهر الشحب على وجوه الصغار والكبار ، لكننا لا نزال نتخيل ولن تغيب عن خيالاتنا صورة السرداب المليء بصراخ الأطفال وكنا نقتبس النور المرتقب الذي يخفف عنا جزءا من العناء، كان ظلاما دامسا وليالي موحشة بكل ما تعني هذه الكلمات والأحرف، وإذا أردنا أن نصف حادثة النزوح فهي حادثة لم تحدث إلا من بعد أعلى الصرخات التي تهز الكيان لا أدري كيف أتحدث عنها فهي قصة لم أرها في أفلام الرعب، ولا في أبشع الحوادث، وظل الوضع يزداد سوءا في وطننا الذي يتدمر أمام أعيننا، كنا نجتمع سويا في «بدروم» المؤسسة خوفا من أن تنال من براءة الأطفال تلك القذائف لم يكن دمعنا في اليوم مرة وإنما في الثانية ألف مرة، صورة مؤلمة لتلك الطفلة وهي تشد الرحال نحو ركن أو زاوية فتملؤها بدموع الانهيار عندما كانت تتعالى صرخات الأطفال ولم نعد نحتمل ذاك الأسى الذي أخفى ملامح السعادة من طريقنا، صورة لا تعبر عنها فرشاة الرسامين ولا أجد ما يعبر عنها في مجسم الذاكرة ما قد يوصل الرسالة التي تشرح الوضع للآخرين، لأن هولها يفقدها الوضوح، كنا نسمع عن أناس فقدوا في موطنهم الأمان ولم ندرِ أننا سنحرم الأمان ايضا في وطننا الحبيب، مشاعر جسدت معاني الغربة في أفئدتنا وترسخت مشاعر الرعب في أرواحنا رغم وجودنا في رمل الوطن، حينها فعلا أصبحنا رواية وصرنا قصة نزوح مزقت معنى الاستقرار، قررنا النزوح ببناتنا وأبنائنا الأيتام الذين أحرف مسمياتنا كلها معزوفة أنين وقصة حزن، قررنا النزوح للهروب من المخاطر حتى لا تنزف قلوبنا دما بدل الألم، قررنا النزوح هروبا من الواقع المؤلم أمام أعيننا، وحقا نزحنا الى محافظة إب كونها أكثر أمانا ولأننا سمعنا بمن يسميها عاصمة السلام، نزحنا ببعض الصغار لنخفف جزءا من الازدحام والاكتظاظ في صنعاء، ونزوح آخر لا نخفيكم ألماً تفجر بركان صاخب في جوفنا من الحسرة والأنين أثناء خطوات الخروج، انه ذاك الجرح الذي أخفى مسكننا الجميل في محافظة تعز إثر القصف العنيف، لم تعد تلك المساكن صالحة للسكن بسبب دمارها الشامل.
أرى سريري أصبح قطعا متناثرة، وثيابي طايرتها القذائف، ومكاني أحرقته الصواريخ، خرجنا لننجو بأعجوبة في أضواء لم تطلع فيها شمس ذلك اليوم، لأن ضوء اللهب كان هو البديل أصوات صاخبة من تلك القذائف والدبابات والرصاص المتواصل والانفجارات المدوية لضربات الصواريخ، كان الجميع في هول ورعب لم نسمع عنه حتى في أقسى تعابير الكلمات وأبشع الحكايات، الكل لا يتلفظ إلا بكلمات اللهم سلّم، اللهم سلّم، عشنا أشد أنواع الرعب من شارع الى آخر، تقلنا سيارة وتتركنا في منعطف لا تستطيع بعده المواصلة ونجري مشيا على الأقدام تحت أصوات القذائف والقناصات، ونجد باصا صغيرا يرحم طفولتنا ويقلّنا الى نهاية الشارع الذي تدوي فيه أصوات الطائرات، ثم يضطر لان يوحي لنا بإخلاء باصه الصغير خوفا عليه من القذائف والدبابات التي ملأت الشوارع، وهكذا حتى وصلنا بالأطفال بسلامة الله بعد عناء مرعب الى محافظة إب.
إن النزوح لم يكن قصة تحكى إنما مأساة لها ألف معنى، فالنزوح شتت الأفكار وشرّد الأنظار، نزحنا من الخوف والرعب من محافظتي صنعاء وتعز، الى منطقة خالية من السكان، منطقة معتمة بدخاخين ملوثة لأنها تعد المقلب الوحيد لكل قمامات المحافظة، منطقة السحول التي وصلنا إليها هربا من السماء المعتمة بالطائرات والشوارع المفخخة بالأسلحة والدبابات، وهكذا عشنا الرعب الذي لقننا درسا عن الغربة بأنواعها، غربة أليمة مفعمة بالوحشة رغم اقترابنا من بعضنا بعضا، غربة ذقنا بها ما لم نذقه في السابق، وما لم يتخيله أحد أو يتوقعه فرد، ذقنا الحرمان من العيش الذي كنا نعيش فيه بسكينة وأمان، وتم نقلنا الى مكان تشتتت فيه أفكارنا وتغلغل الخوف والرعب من مستقبل مخيف ينتظرنا وبدأ الكل يبحث عمن يدبر لنا المأكل الذي نسد به جوعنا، وفرش يقينا برد الأرض أو لحاف يحمينا من ألم وبرد الشتاء، كلها لحظات لا نستطيع أن نصفها أو نعبر عنها، وأصبحت حياتنا معاناة مؤلمة بكل تفاصيلها، حتى الماء المتواجد كان التلوث فيه بدرجة لا تتوقع، حيث أصاب جميع الساكنين بأمراض مختلفة بسبب التلوث الكائن في مياه تلك المنطقة، ولم نجد النور الذي كنا نضيء بها ليلنا وأصبحت الشمعة المحترقة أمامنا هي أبلغ من أي تعابير متحدثة، كنا نعدها أياما مظلمة سينجلي همها وتشرق الشمس بعد أيام أو شهور لم نفكر أبدا أنها ستطول الشهور وتتعدى السنوات، ساءت الأحوال الاقتصادية وانقطع الكثير من الكفلاء، ذقنا ذلك المر الذي أتعس عيشنا، وأظلم علينا الواقع المحيط بنا، نعم أظلمه دخان معتم أحجب عنا الرؤية لما سيأتي، وأحجب عنا إجابات لتساؤلات كثيرة، أولها متى نعود الى أماكننا، ومتى نعود بأمان لنرجع الى السكن الآمن الذي كنا نسكنه وبجواره مدارسنا، ومتى سيعود الاستقرار والأمن والأمان الى وطننا الحبيب الغالي؟ أم أن الألم سيظل يخترق القلوب الى أن يتوقف نبضها، لماذا بلدي أنا؟ جعلتمونا غرباء في أوطاننا ومشردين في مساكننا.
ولماذا نحن الضحايا في مواجهة حروب مدمرة؟ لماذا نحن من يتحمل ذنوب الكبار وأخطاءهم التي اقترفوها؟ لم نعد نحلم بشيء، ولم يعد لنا أي مطلب سوى حقن الدماء، أعيدوا لنا أماننا الذي بات أهم مطلب لنا، فقط أعيدوا لنا وطننا كي نعود من وطن الغربة الذي بتنا نسكنه.
ومضة: هؤلاء الأيتام الذين تتحدث عنهم رقية الحجري بحاجة إلى المال وزيارة المتطوعين، فمن يلبي النداء؟!
آخر الكلام: سطورها أغنتني عن أي تعليق!
زبدة الحچي: رقية الحجري مثال حي على السمو الإنساني في أجمل معانيه، نضرب بها المثل لأنها رمز للأمثال والحكم، قول الله تبارك وتعالى: (...وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) الحشر 21. وأنا أقول إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا يا رقية، وأبشري أُخيّة.. الكرماء والمحسنون في الكويت كُثر وسيفزعون للأيتام يا أم الأيتام.. سلام!