[email protected]
قال القبطي: ما كنت أعرف أن سبْقي له سيجرح كرامته!
حين قال: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين!
دعونا نتوقـف عنـد قصـة القبـطي وابـن عمرو بن العاص.
لم تكن ساحة مباراة عادية، وإنما ساحة يحضرها جمع من المسلمين والأقباط والذي أحاط به عدد كبير من المتفرجين والمتسابقين، أراد القبطي أن ينزل السباق مع ابن والي مصر وهو أيضا مصري مثله ويحق له إن فاز أن يفخر بهمته وجدّه!
لكن الذي حدث ما لم يكن بالحسبان، فارت الدماء الزرقاء في قلب ابن عمرو بن العاص، إذ كيف يسبقه هذا القبطي؟
فقالها تكبرا وتجبرا: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟
هنا فقط وعلى أرض النيل الطيبة وحاكم بعظمة وهيبة عمرو بن العاص قيل لهذا القبطي الخائف المظلوم: إياك أن تصمت عن حقك، ان ما حدث لك عصر امس ستنعم به عدالة ورضا، فالكون كله ملك يديك ورهين الحق الذي تحمله طالما بقي حاكم مثل عمر!
اذهب إلى عمر بن الخطاب أيها القبطي إنه في المدينة المنورة لينظر في مظلمتك!
لم يستطع القبطي ان يتحمل هذه المظلمة ويسكت، قاد راحلته يطوي القفار والصحارى وهو يقول: لا عليك أيها المتكبر، فخليفة المسلمين حرم الظلم على أمثالك! سينصفني ويأخذ حقي منك!
أجل يا سيد الحكام والرجال، من مثلك حفظ الحقوق؟
أتبكي قلقا من شاة ضلت الطريق؟!
أو زلت بها القدم على شاطئ نهر بعيد؟!
أنت لا أحد غيرك من حمل على ظهره ألوان الطعام ليصنع للجياع من الصبية الأيتام طعاما يسد رمقهم!
وحفظها لك التاريخ عندما خاطبت صناديد قريش قائلا: إني مهاجر ومن أراد أن تثكله أمه فليتبعني وراء هذا الوادي، إنها عظمة عمر الشجاع!
وحطت به الراحلة أخيرا ودخل القبطي من باب المدينة، وبعد الاستراحة دخل المسجد ومجلس القضاء يتفرس في الوجوه على استحياء وهو لا يدري أن عمر يراقبه من بُعد حتى عرفه وهو يستشعر الرهبة من هذا الرجل الذي خضعت له الدنيا طائعة!
تفهم عمر الشكوى وقرب الشاكي منه مبتسما ليخفف عنه وطأة السفر والتعب، وقال: كلي آذان مصغية هات ما عندك.
استرد القبطي أنفاسه المتعبة وشعر بالدفء والأمان يسري في عروقه وأدرك انه في حضرة عمر!
جلس القبطي يحكي ما تعرض له من ظلم مع ابن العاص الذي أهانه وعيناه المغرورقتان بالدمع تريد الإنصاف من خليفة المسلمين.
نهض عمر واقفا وارتسم التأثر على وجهه، كيف يحدث هذا في أرض مصر؟ وقال: أو تفعلها يا ابن العاص؟ أو لك طاقة غدا أمام ميزان أحكم الحاكمين؟
ثم نظر في وجه القبطي المظلوم قائلا: رويدك أيها الرجل ستأخذ حقك بيدك ولتكن ضيفا كريما عندنا في المدينة ريثما يحضـر والي مصـر عمرو بن العاص مع ابنه المعتدي عليك!
ثم طلب من الصحابة أن يكتبوا الى عمرو بن العاص للحضور مع ابنه فور وصول وتسلم الكتاب.
هنا أحس القبطي أن بيوت المدينة كلها فتحت له ضيفا عزيزا، وان قلوب الحاكم وأهل المدينة حكمت له بالحق قبل أن ينهي كلامه!
وينزل الخبر على عمرو بن العاص ثقيلا، لكن لا مناص ان يطوي القفار بجواده دون تأخر وما ان وصل حتى عقدت المحكمة أطرافها بحضور القبطي المظلوم وعلا الحق واضحا جليا من الحاكم العادل بعد أن استمع الى الظالم والمظلوم.
هنا قال للقبطي وسط ميدان «العدالة العمرية»: خذ درتي، أي حذائي، واضرب بها رأس ابن الأكرمين، ليعرف ابن الأكرمين من هو في ميزان العدالة.
ثم التفت الى والي مصر عمرو بن العاص قائلا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
وتردد صدى هذه الكلمات الخالدات في التاريخ وأرجاء الكون كأنها تقول للقبطي: اوجع بضربك - أيضا - رأس الوالي ولا تأخذك بهما شفقة.
ومضة: بورك دين يحمل بذور بقائه، وهذا هو الإسلام الصحيح وحكامه.
آخر الكلام: بوركت يا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأنك وضعت دساتير الحكم.
زبدة الحچي: لا يظلم في ميدان العدل ما دام هناك مثلك يا عمر.
وهكذا عاد القبطي فرحا بنصره قائلا: أنصفني عمر من واليه وابنه.
وأمام هذا المشهد نتذكر قول القائل رسول كسرى الذي رأى عمر بن الخطاب متوسطا نعليه من غير حراسة فقال: عدلت فأمنت فنمت!
طوبى لك يا عمر وطوبى لكل عمر من بعدك.