[email protected]
أرسل الأخ الصديق القارئ محمد الدعيج «بوأحمد» واتساب رداً على مقال: «الأخلاق في زمن الفالصو».. وقد مكنته من احتلال المساحة للرد المسهب، يقول:
الأخلاق الإسلامية الحقيقية «الوسطية» هي المنقذة لنا من هذا التطرف والغلو والتكفير!!
انا هنا أخالفك الرأي بعض الشيء ليس التطرف هو من آذانا ولكن هبوط المستوى الأخلاقي والانصراف عن التدرج في التطرف من الانكار حتى بين الناس كان سببا في ظهور التدين،وقد وصل الانكار إلى مستويات كبيرة اخذت منحى شرسا بين فئات الانكار ولكنهم ليسوا بالمستوى الذي يدفعنا إلي أن ندق ناقوس الاتهام لجهال المتدينين.. التطرف له اشخاص آخرون وهم كثر.. ولا اخفيك يا بومهند هي المنقذ لنا من التطرف إنني غير مقتنع بالوسطية.. اتركك مع هذه القصة الواقعية لعلك توافقني الرأي بأن التطرف له اشكال متعددة واسمع مني هذه القصة.
كان هناك لواء مصري شهير اسمه (س.ف) تحدث قائلا: إنه حينما كان رئيساً لادارة الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية جاءته ذات مرة سيدة تريد ان تحظى برعاية بعض أسر شهداء الحرب مع اسرائيل التي عرفت بحرب اكتوبر 1973م فرحبت بها وكفلت تلك المرأة قرابة مائتي أسرة كفالات مالية من العلاج والزواج والحج.. الخ، وكانت تعطي عطاء من لا يخشى الفقر ثم وصل عدد الأسر التي كانت تدعمها الى ألف أسرة ولما عرض عليها مقابلة حرم رئيس الجمهورية لتنال تكريما قالت: «كدا يضيع الثواب»، مرت سبع سنوات وانقطعت عني اخبارها وذات يوم وبعد خمسة عشر عاما من تركي الشؤون المعنوية تلقيت اتصالاً من دار المسنين وفاجأتني ان هناك عجوزا تريد الحديث معي فعرفت الصوت، وكنت اطلق عليها هذا اللقب «أم الشهداء» فذكرتني بنفسها وتذكرت اول لقائي بها قبل اثنتين وعشرين سنة، وعرفت أنها بدار المسنين منذ خمس سنوات، فزرتها وجلست معها وسألتها عن أولادها فأخبرتني بولدها الطبيب العالمي المقيم في أميركا وولدها الثاني الذي اصبح ثريا مشهورا في دبي وابنتها المتزوجة المقيمة في القاهرة وعرفت مدى الثراء الذي هم فيه ولمحت بين عيني العجوز كبر السن وضعف البصر والسمع ورقة العظم ووحشتها وقربها من عتبة الموت، وبُعد فلذات اكبادها عنها، والعصا التي لا تقدر ان تمشي خطوة واحدة الا بها.
لقد اصبحت ضعيفة نحيفة متعبة مهدودة ليس كما عهدتها قبل عشرين عاما.. تطوف مصر باكملها بحثا عن أرملة تشتري لها الطعام وتؤانس وحشتها، لقد كان آخر عهدها بولديها قبل عشر سنوات.
قمت بالاتصال عليهما، ودعوتهما لزيارة امهما فأجابني الطبيب المقيم في اميركا ولديها من المال ما يكفيها للعيش في دار المسنين دون مشاكل، فقلت له ألا تشتاق لأمك؟ فتعذر بانشغاله رغم انه يزور مصر كل عام وسمعت نفس الكلام من ولدها المقيم في دبي وتعللت البنت بأولادها وكثرة مشاغلها.
فبقيت ثلاثة اشهر ازورها في كل اسبوع وحديثها العذب المصفى في كل زيارة تخرج لي ملف ذكريات عبارة عن صور والبومات لاولادها وهي فرحة مسرورة بنجاحهم وتفوقهم، وتخبرني عن بذلها الغالي والنفيس في دراسة ولدها الطبيب... واكبر متعة لها الحديث عن اولادها.
وذات يوم حدثتني برغبتها العارمة في زيارة اولادها لتفرح بهم وبأحفادها.. وتكحل نظرها برؤيتهم قبل وداع هذه الحياة ومغادرة هذا الكوكب وهي الثرية القادرة على السفر.. فاتصلت بولديها لترتيب أمور سفرها اليهما واستقبالهما لها ومعرفة عنوان كل منهما، فكان الرد واحدا وهو الامور هنا صعبة وعندما نزور القاهرة سوف نراها وفي يوم من الأيام الحزينة جاءني اتصال لا انساه من مديرة دار المسنين تبلغني بوفاة العجوز فذهبت سريعا أجر خطاي وأسحب قدميّ سحبا وأكاد اتعثر في المشي.
ولما وصلت الدار ورأيت العجوز الوحيدة المسجاة التي ماتت وهي تتمنى ان تنظر نظرة واحدة لاولادها او يكونوا عند رأسها في لحظة السكرات ولم يلبوا طلبها ولم يردوا حتى على اتصالاتها انهار دمعي ولم اتمالك مشاعري.
وكانت لحظات بلغ بي الهول فيها مبلغه.. فاتصلت بولديها فكان الرد:
لا نستطيع الحضور ولا داعي لمشقة السفر من اجل هذا الامر فاتصلت بابنتها فأخبرتني انها مع اولادها في الاسكندرية للمشاركة في مسابقة رياضية وحضورها صعب.
يخبر اللواء بعد ذلك أنه قام بتجهيز تلك المرأة ودفنها ومشى وحيدا في جنازتها.
ويواصل اللواء: انه ولاول مرة يبكي كالطفل تماما تذكر ببكائه هذا بكاءه يوم ماتت أمه الحنون.
بعد أسبوع من دفن العجوز حضرت البنت لدار المسنين تطالب بشهادة الوفاة ليبدأ حصر الثروة الطائلة لتلك العجوز التي كانت تعول ألف أسرة من أسر شهداء مصر ليبدأ تقسيم التركة وبعدها حضر الولدان وتسلموا شهادة الوفاة وارثهم منها.
٭ ومضات:
يا لتلك الشهادة
.. انها شهادة وفاة القيم والعقوق!!
انها شهادة موت الضمير..
شهادة موت الخلق، والعطف، والرحمة، ورد الجميل.. .. وقلة الحياء وموت العاطفة.
أحقا يكون هذا البر في الأم؟!
٭ آخر الكلام:
شكرا «بوأحمد» على هذه المداخلة وهي قصة حقيقية والتي تذكرنا «بالوالدين احسانا».
٭ زبدة الحچي:
هذه صورة قبيحة للأبناء غير البارين بأمهم وسينالون نفس الجزاء من عيالهم.. الجزاء من جنس العمل.. والأيام دوائر!