من منا اليوم في هذه الدنيا ليس بحاجة الى ابتسامة ملء شدقيه؟ نعم، كلنا من البشر بحاجة الى هذه الابتسامة التي تشعرنا بالبهجة والارتياح والتفاؤل والأمل، ما أحوجنا نحن بني الإنسان لهذه الضحكات في عصر اتسم على الإطلاق بالحروب والتوتر والقلق والكوارث وزادها الحسد والغيرة والحقد وغيرها.
هل جربت أن تضحك وترى تأثير هذا الضحك على صحتك وطمأنينتك؟ هل لاحظت مدى تأثيره على وسطك الإنساني في المنزل والمجتمع على نطاق الأسرة والأصدقاء والجيران؟
هل لاحظت مدى تأثيره على الأمراض إن كنت صاحب علة أو مرض ليصبح طريقك للعلاج؟
جميل أن تمارس الضحكة وتظهر أسنانك وحتى لوزتيك كتعبير عن وجدانياتك وشعورك المرهف لتقول للعالم أجمع: انا متوافق مع نفسي وأضحك من كل قلبي.
استراحتنا اليوم عن الابتسامة فإن كنت من المبوزين الذين مادين البوز فحول الى صفحات أخرى.. وعلى بركة الله نبدأ.
طبيعة بشرية
الضحكة كانت ولاتزال وستبقى علامة فارقة بين بني الإنسان وغيره من الكائنات الأخرى وأعتبرها لغة من لغات الجسد ووسيلة من وسائله للاتصال بالآخرين، فكلنا جربنا انه بالابتسامة تعبر قلوب الناس لأنها وسيلتك للتودد والتخاطب.
والدراسات تشير الى ان الابتسامة لها تأثيرها الإيجابي على الآخرين فالإنسان الذي يمارسها صح في الزمن والوضع الطبيعي تحقق له نتائج طيبة لأن البشر اليوم قادرون على معرفة نوعية الابتسامة وأهدافها ومراميها، فالإنسان السوي قادر على تمييز الابتسامة الصادقة والخجلى والمنافقة والغامضة والقلقة.
وهناك من عرفناهم بابتسامتهم البيضاء الصادقة مثل صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الأحمد، وأخرى صفراء مثل ابتسامة ياسر عرفات أو سوداء للمقبور صدام حسين.
والابتسامة تحرك كل عضلات الوجه والفم ولا تستجيب لحركة هذه الضحكة إلا المشاعر الحقيقية والنفوس التي تصلها هالة وطاقة هذه الابتسامة التي تخرج من القلب لتصل الى القلب دونما وسيط. وانت في الحياة تستطيع بكل سهولة التعرف على الابتسامة إن كانت سوية أو خبيثة لأن الإنسان يملك ترمومترا وقرني استشعار لرصد الابتسامة.
الابتسامة تاريخياً
أنا شخصيا لو أحببت أن أخوض في تاريخ الابتسامة فأول ما يتبادر الى ذهني ما قرأته واذكره من صفحات السيرة النبوية الشريفة المطهرة والتي تحدثنا عن ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان أشد الناس ابتساما في وجه أصحابه وآله والناس أجمعين لأن الحبيب صلى الله عليه وسلم جعل الابتسامة صدقة فقال: «تبسمك في وجه أخيك صدقة». ويحدثنا التاريخ ان ملك بابل في العام 3500ق.م يوصي ابنه بأنه إذا أراد أن يعيش مرتاحا سعيدا مطمئنا يجب أن يكون مبتسما لخلق جو من النقاء والصفاء وطرد الملل من الحياة.
كما ان كتب الحكمة القديمة في الصين تذكر قبل 4000 عام ان هناك حكمة بليغة تقول: «إن الرجل الذي لا يعرف كيف يبتسم لا ينبغي أن يفتح متجرا..» كدليل على أهمية الابتسامة في مسيرة التاريخ الإنساني وأراها قاعدة تسويقية ذهبية.
وأعود للسيرة النبوية المباركة، عندما تصف السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ما حدث بعد أن ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بابتسامته ثم عاد الى حجرته، وكانت تلك اللحظات الأخيرة من حياته.
قال ابن كثير رحمه الله: «وكانت ابتسامته هذه – صلى الله عليه وسلم – آخر ابتسامة أشرق بها وجهه على أصحابه» ويعلق على هذه الابتسامة المؤثرة الإمام ابن كثير في «البداية والنهاية» فيقول: ثم بدا لهم وجهه الكريم صبيحة الاثنين فودعهم بنظرة كادوا يفتنون بها، ثم كان ذلك آخر عهد جمهورهم به ولسان حالهم يقول كما قال بعضهم:
وكنت أرى كالموت من بين ساعة
فكيف ببين كان موعده الحشر
الذي يقرأ نصوص السيرة النبوية الشريفة يعي ويفهم ويستنبط ان رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدم الابتسامة ليخفف عن أصحابه وآل بيته الأطهار والمحبين له والمتعلقين بجنابه، وطأة فراقه وشدة فقده وألم موته.. صلى الله عليه وسلم وجعلنا الله ممن كتب لهم مرافقته في الجنة.
الابتسامة شعراً وشعراء
تضم دواوين الشعر مواقف الشعراء من الابتسامة، فهذا الشاعر الفارس العربي أبو فراس الحمداني يصف الابتسامة الجميلة باللؤلؤ المنضود ليقول:
اللؤلؤ المنضود في فمك جميل
فيه السعادة للشقي وللعليل
أما شاعرنا المعاصر ايليا أبوماضي فيصف الابتسامة علاجا لمحاربة اليأس وأسلوبا للتفاؤل والأمل يقول:
قال.. السماء كئيبة وتجهما
قلت.. ابتسم يكفي التجهم في السما
قال: الصبا ولى! فقلت له ابتسم
لن يرجع الاسف الصبا المتصرما
قال: التي كانت سمائي في الهوى
صارت لنفسي في الغرام جهنما
خانت عهودي بعدما ملكتها
قلبي فكيف أطيق ان اتبسما
قلت ابتسم يكفيك انك لم تزل
حيا ولست من الاحبة معدما
ومن يستعرض كتب الشعراء قديما وحديثا نجد للابتسامة مساحة كبيرة من أشعارهم، لأن الحقيقة الباقية ان هذه الضحكة علامة جودة في عالمنا الكئيب فلا تحرم نفسك اقرأ واستمتع واضحك مع اشعارهم لتزيح عن قلبك المهموم كدر الحياة، وابتسم فالبسمة هي التي تهزم حالة اليأس والقنوط وتعطيك اكسير الحياة لترفعك من عالم المكتئبين الى عالم الضاحكين ومن غير افراط ولا تفريط، فالابتسامة وصفة النبلاء ومعين الشعراء.
قواعد وقوانين البسمة
ليس من المعقول ان تدخل العزاء وانت مبتسم؟
وليس من الحكمة ان تضحك في وجه محزون أو مجروح؟
مواقف كثيرة في الحياة تصادفنا تكون جميلة وتستحق الابتسامة والضحكة المعقولة والتي تترك اثرا ايجابيا فيسعد بها الجميع وتنتشر المودة والمحبة في الارجاء.
وهناك من يضحك في الدواوين والمجالس بدون اسباب مبررة، فيكون هزءا وينتقد ويلام واحيانا تكون الابتسامة والضحكة العالية في غير مواطنها «قلة أدب واحترام» وقد يطرد صاحبها من المجلس أو المكان الذي هو فيه لعظم جسارته، فليس من المعقول ان يضحك عاقل في صلاة جمعة أو محاضرة جادة أو درس في قاعة العلم أو عسكريا اثناء تأدية القسم والقيام بالواجب وقس على ذلك أمثلة لا حصر لها.
نحن جميعا مع الضحكة والابتسامة الجميلة التي تمحو العبوس عن وجه صاحبها وتجعله مقبولا من الجميع.
ان للضحكة والابتسامة قوانين غير مكتوبة انما أنماط سلوكية واخلاقية يتعارف عليها المجتمع وتصبح دستورا بين الناس وهي سهلة ولا تكلف كثيرا، وعليه أرجو من كل أب وأم أن يدربوا اولادهم عليها منذ نعومة أظافرهم، فالابتسامة تجعل الانسان سعيدا في حياته لأنها ضابط للنفس البشرية.
الابتسامة في الشريعة
أرجو من يقرأ هذه الفقرة ان يتوقف قليلا ويتمهل ما يقرأ، فعن أم الدرداء قالت: كان ابو الدرداء رضي الله عنه لا يحدث بحديث الا ابتسم فيه.
فقلت له: اني أخشى ان يحمقك الناس، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدث بحديث الا ابتسم. رواه الامام احمد في مسنده.
والله ديننا الحنيف دين عظيم وشريعتنا معين لا ينضب ومصدر عظيم يستطيع كل كاتب وقارئ أن يجد بحرا لا ساحل له من الوقفات التي تستلزم منا جميعا البحث الدقيق لقضية العبوس والتجهم باسم الدين، وديننا بريء من هذه المثلمة، ففي حياة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ابتسامات كثيرة لمرويات التبسم، مما يعني استفادتنا في حياتنا من هذه الابتسامات في إحياء الشمائل المحمدية.
ويجب ان نفرق بين الابتسامة التي قرأنا عنها في السيرة وتاريخ الانبياء مثل تبسم سليمان عليه السلام من كلام النملة والضحكة التي تصل الى القهقهة وأنا وغيري مع الابتسامة الضاحكة التي تجعلك رجلا مبساما أو امرأة مبسامة، لأن التبسم هو أقل الضحك وأحسنه، وفي التنزيل: (فتبسم ضاحكا من قولها) ـ سورة النمل 19.
معوقات الابتسامة
شيخنا عبدالحميد البلالي رئيس جمعية بشائر الخير يجيب عن كيفية التغلب على موانع الابتسام فيقول: لابد ان تكون لنا ارادة قوية تتعالى على الهم والمصيبة، ولنتذكر أننا لم نغير شيئا مما قدره الله تعالى علينا بغضبنا وهمنا وعبوسنا، واننا سنخسر الكثير من صحتنا عندما نغضب ونخسر الآخرين عندما نعبس وقد نخسر الدين عندما يتجاوز الهم والغضب الى الاحتجاج على قدر الله تعالى. ولنستعن دائما بالقاعدة التي اخبرنا بها رسولنا صلى الله عليه وسلم «انما العلم بالتعلم وانما الحلم بالتحكم» فإذا لم تكن البشاشة من طبعنا فلنتعلم كيف نبتسم ولنحاول ان يكون ذلك من طبيعتنا بعد أن نتذكر ثمار الابتسام والضحك.
ولعلي هنا أنبه الكثير الى أهمية رائحة الأنفاس في ترك الاثر وجلب الابتسامة وما تفعله الرائحة الكريهة من جوانب سلبية على الجانب الجمالي والنفسي والصحي فليس معقولا ان تقابل شخصا وتحاول ان تكسر معه الحاجز النفسي وأنت متناول ثوما أو بصلا؟
نعم معوقات الابتسامة أمور كثيرة، ومن يستطيع ان يصل الى سرها يبقى سعيدا مدى الحياة لأن الابتسامة تطيل العمر وتعطي صاحبها ضوءا وقبولا في قلوب الناس.
الابتسامة دواء
هل الابتسامة دواء؟ نعم يقول الداعية عائض القرني في مؤلفاته وكتبه ان البسمة هي السحر الحلال.. وإعلان الإخاء وعربون الصفاء.. ورسالة الود وخطاب المحبة.
والبسمة تقع على صخرة الحقد فتذيبها.. وتسقط على ركام العداوة فتزيلها، وما أكثر ما تغزو المرء تيارات الأسى، وتعلوه سحب الهم وتنتابه الكآبة فلا تسأل عن أثر الابتسامة.
وقد أبدع وتألق أحمد أمين حينما قال: «لو أنصف الناس لاستغنوا عن ثلاثة أرباع ما في الصيدليات بالضحك، فضحكة واحدة خير من ألف حبة اسبرين».
ولعلي من خلال هذه المساحة أدعو كل حزين أو متألم الى الابتسامة لعلها تزيل الهم والغم، فما من مصيبة وإن كبرت إلا لتصغر وتنجلي لأن الله جعل لكل شيء قدرا فدع عنك الأحزان وابتسم.
الابتسامة سر السعادة الزوجية
نحن في الكويت وفي ظل تزايد حالات الطلاق والانفصال والمشاحنات الزوجية ندعو من خلال هذه المساحة لجعل الابتسامة تحل أولا محل التجهم والعــبوس (ومدة البوز) فالكل يعرف ان الحياة الزوجية لا تخلو من المشاحنات والزعل وتكدير الخاطر وليس لدي إحصائية غير اننا في الكويت نتيجة المماحكات الســياسية الجارية بين الفريق الحكومي والـــفريق البرلماني تحولنا لأتعس الناس، فالأخبار خلال السنــتين الماضيتين تضيّق الخلق، فقد غابت الابتـسامة عن البيت الكويتي نتيجة أمور كثيرة من الكارثة الاقتـــصادية لذا أرى ان الأسرة الكــــويتية اليـــوم بحاجة الى الابتــــسامة كي تكسر الملل والفتور، فعلماء النفـــس يقـــولون: ان الحياة الزوجية تحتاج الى دعائم لاستمرارها وان البعض يعتبر الحياة الزوجية أمر خطيرا كثير الجدية ومليئة بالهموم والواجبات حتى نسوا الضحكات فدب الملل في حياتهم.
بينما يقول الأطباء النفسيون: ان الأزواج لو اقتطعوا وقتا خاصا بــهم لكان أنفع للأولاد الذين يهمهم صمود نواة الزواج مع ضرورة التخلص من الإحساس بالذنب بأن الأولاد أحق بالوقت كاملا أو بتلك النزهة التي جمعتك بزوجك لتحررا من الرسميات والقيود ولتـنطلق ضحكاتكما التي اختفت خلف الهموم والمشاحنات حتى لزم العبوس وسكن في وجوه الأطفال والأبناء للأسف.
الوصايا والمواعظ الذهبية في الإسلام والجاهلية
د.المستشار عبيد مجول العجمي في كتابه الرائع «الوصايا والمواعظ الذهبية في الإسلام والجاهلية» خدم المكتبة الإنسانية بهذا الإصدار الأكثر من رائع، شخص الوصايا كدكتور متمرس، وحدد المواعظ بخبرة المستشار الذي شهدت له قاعات المحاكم، وعرض بلغة الشاعر البليغ للعبارة والمعنى، وبكل تواضع المستشار العالم يقول: أقدم هذا العمل المتواضع، قاصدا به وجه الله وان يتقبله مني، ومرشده وواعظه والده طيب الله ثراه، ووالدته، وأنا أقول: من أراد الوصايا والمواعظ الذهبية في الإسلام والجاهلية يطلبها من أبي محمد وأنا مع ضرورة الطبعة الثانية ولأن الأولى طبعت عام 1997 ويشرفنا أن نقوم بذلك عن طيب خاطر.. كتاب مرجع عام.
«جوده» في خيال راكان
من المضحكات المبكيات ان الفارس الشاعر البطل راكان بن حثلين التفت وهو مقيد لحارسه حمزة أثناء نقله لاسطنبول بعد أن رأى برقا فقال:
كما مزنة نشت على الجوف واسبلت
غثا سيلها يملا الحقن من نفودها
واخرى على جوده غثاها لكنه
صرايم زرع في ليال حصودها
قصيدة لشاعر ذكرني «بجوده» وفرسانها من آل ضاعن ولهم مني سلام.
نصيحتي إلى من جاوز الأربعين
أرجو من كل من جاوز الأربعين أن يقرأ هذه الرسالة القصيرة قراءة فاحصة وليتدبرها وليعمل بما فيها مما يراه نافعا له ومناسبا، وليقدم على الحياة باسما متفائلا وليدرك ان مهما بلغ المؤمن من السن فإنه لايزال يستطيع التقديم والعطاء، وان مثله كمثل النخلة كلما قدم غرسها جاد عطاؤها، وارتفعت في الهواء وحسن منظرها، وكملت معها الهيئة، وقوي منها العود وعظم إليها المرتقى، وان المؤمن لايزال نافعا معطاء عاملا حتى يلقى الله تعالى مهما تقدم به العمر وبلغت به السنون ومصداقا هذا في قول الله تعالى (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين - الحجر:99) أي (الموت).
كانت هذه كلمات د.محمد موسى الشريف في كتابه جدد حياتك (renew your life).
وكلنا يذكر شيخنا فضيلة د.محمد الغزالي – طيب الله ثراه – ورسالته القديمة «جدد حياتك» التي قارن فيها بين ما جاء في كتاب «دع القلق وابدأ الحياة» وما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والدعوة لكم من الكتاب.. ابتسموا وجددوا حياتكم.
أجمل هدية
تلقيت هذا الأسبوع من ابنة أخي الأصغر «أماني» بعد ان عدت من دبي كتابا رائعا بعنوان: الشيخ محمد ذكريات وانجازات، من خلال عدسة المصور الملكي نور علي راشد، ويتضمن الكتاب مقدمة بقلم الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ومقدمة بقلم معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان.
حبيبتي «أماني» شكرا لإثراء مكتبة عمك وفكره.
[email protected]