لأول مرة أجدني مضطرا لقول شكرا للحكومة، ليس لأنني شخص أحب أن أتصيد للحكومة أخطاءها، أو أنني شخص لا يحب شكر الآخرين، ولكن لأن حكومتنا الموقرة ولأول مرة ومنذ تشكيلها مايو الماضي أحسست للحظة أنها قامت بشيء جيد وملموس وحي وواضح لشعبها.
وهذا الشيء الوحيد الذي فعلته الحكومة هو قرارها بصرف رواتب موظفي الحكومة باكرا قبل رمضان، ليتمكن شعبها الغلبان المثقل بالديون من شراء ما يحتاج إليه من مستلزمات الشهر الفضيل.
وإن كان الجميع وفي لحظة فرح يعتقدون أن هذا الصرف الباكر أمر جيد، غير أنني أرى أن هذا الراتب لن يذهب إلا إلى أيدي تجار الغلاء الذين سيكونون وحدهم المستفيدين من هذا الراتب المبكر، ولم تكتف الحكومة بأنها ستصرف راتب أغسطس باكرا قبل رمضان بل أعلنت أن راتب سبتمبر سيتم صرفه قبل العيد، وأجزم بأن كثيرين رددوا بينهم وبين أنفسهم «يااااه كم هي طيبة هذه الحكومة».
ولا أعتقد أن للطيبة دخلا في هذا القرار، لأنني أرى أنه وحتى عندما قررت أن تكافئ شعبها بمنحه راتبين باكرين متتاليين، لا أعتقد أنها فعلت هذا فقط من أجل عيون الشعب، بل من أجل أن تكحل أعين تجار الجشع الذين سيرفعون أسعار كل شيء تحت مبرر راتبين صرفا مبكرا.
سيرى الجميع بأم أعينهم أن أسعار المواد الغذائية ستزداد خلال اليومين القادمين ببركة هطول مطر الراتبين المبكرين، وستزيد الأسعار ما بين 50 و100%، حتى مستلزمات العيد ستطير أسعارها بشكل جنوني وغير مسبوق، وهو ما سيلمسه الجميع، طبعا هذا كله سيتم في ظل غياب تام لرقابة وزارة التجارة التي ستكتفي كعادتها كل عام بالفرجة المجانية وتصريحات «بوبلاش».
الآن وبعد هذا العرض السريع أجدني مضطرا لسحب شكري الذي وجهته للحكومة في بداية مقالتي ليقيني بان هذين الراتبين ربما سيسدان حفر نقص في جيوب كثير من المواطنين، ولكن الحكومة وبهذين الراتبين ستسمح لوحش الغلاء بالتمدد وستطلق غولا جديدا للغلاء اسمه غول الراتبين المبكرين.
وسط هذا كله لا عزاء للفقراء سوى أنهم سيعيشون أيام 10 أو 11 أو حتى 12 أغسطس بفرح الراتب المبكر الذي سرعان ما سيتبخر في يومين على أكثر تقدير، ومعه ستطير الفرحة التي لن تعود إلا مع شمس يوم 9 أو 10 سبتمبر أو بالأصح مع راتب العيد، وسرعان ما ستتبخر فرحة راتب العيد هي الأخرى في ثاني أيام العيد، ليعيش الموظف المسكين سواء كان مواطنا أو وافدا حتى يوم 25 أكتوبر بلا رصيد، أي أن الجميع سيقضون أكثر من 45 يوما تحت طائلة انتظار راتب الشهر القادم.
هل تعتقدون أن الحكومة ستراقب ملايينها التي سترميها كرواتب مبكرة للشعب؟ شخصيا لا أعتقد فرقابتها في غيبوبة دائمة، فلا وزير تجارتها سـ «يحاتي» مستلزمات رمضان ولا وزير إعلامها سينتظر يعد الساعات ليهبط الراتب في رصيده، ولا وزير داخليتها سيضطر للاتصال 50 مرة في اليوم طوال ايام 23 و24 و25 وهو يستمع لبدالة البنك ترد عليه «إن رصيد حسابك المتوافر هو 10 دنانير»، لذا فالشعب وكما يبدو من هذا كله أنه آخر اهتمامات الحكومة.
حكومة لا تشعر بالشعب ولا تفكر سوى في أن تلقي عليه راتبه هبة، هي في حقيقة الأمر ليست سوى حكومة ستكافئ تجار الجشع بإلقاء راتبين مبكرين في بطن وحش الغلاء الذي يمسكون سلاسله بأيديهم يطلقونه متى شاءوا ويحجزونه متى أرادوا ولا دخل للحكومة سوى أنها تتفرج مع وزارة تجارتها وكأن الأمر لا يعنيها.
[email protected]