ذعار الرشيدي
صمت مطبق، لا حدود للسكون في عالمهم، يعيشون اللحظة عبر أعينهم، يبثون كثيرا من احاسيسهم عن طريق نظراتهم المثقلة بطبقات من الصمت القاسي والذي تمكنوا – بالتكيف – من حفره وتجاوز حدوده الى آفاق ليستبدلوا الكلمات بالاشارات والتأوه بالنظرة والصرخة بضم الشفتين والدهشة برفع الحاجبين والغضب بعقدهما، أما ضحكاتهم فليست سوى ابتسامة يتحدد طولها بحسب الفعل المضحك الذي اتيت به وانت تحدث احدهم.
صمت بلا آفاق، ينتهي سمعهم الى اللاشيء، لا شيء على الاطلاق سوى ربما بعض من الهمهمات الداخلية التي يسمعونها في وجدانهم.
من كتب له ان يولد بلا سمع فلن يسمح له خياله بأن يقوم بتركيب الصورة التي يراها على صوت ما لانه لم يسمع في حياته اي صوت، ولكن رفرفة العصفور الذي يراه تمنحه لونا صوتيا في ذهنه، كالبياض.. كالبراءة، ومشاجرة لشخصين يرى ايديهما تعلو بالتهديد والوعيد لبعضهما وافواههما قد ملأها الصراخ الذي لا يسمعه سيراه باللون الاحمر الغاضب، ويرى شخصا يقترب منه للسلام باللون الازرق الشفاف، فهم يرسمون لكل صوت محتمل لونا يقومون بتخزينه في ذاكرتهم التي يخلو ارشيفها من اي شريط سمعي.
عالم الصم، ليس كوكبا معزولا كما يتصور البعض يسكنه مجموعة من المختلفين عنا، فمعظمهم اكثر انسانية من جميع الاصحاء، وعلى درجة عالية من الاحساس العاطفي بكل شيء محيط حتى وان كانوا يفتقدون لاهم حاسة منحها الله سبحانه وتعالى للبشر الا وهي السمع.
اخوتنا واشقاؤنا واصدقاؤنا من الصم، رأيت بجلسة واحدة معهم ان جلستهم كانت اكثر رقيا من عشرات وربما مئات الجلسات التي جمعتني بأصحاب الالسن الطويلة والسمع المرهف من الاصحاء، اشاراتهم كانت اعمق من الكلمات ونظراتهم ابلغ في الايصال من خطبة سياسي قضى عمره « يهذي» في مجلس الامة.
التفاتاتهم اثناء الحديث الصامت المليء بالاشارات كانت امتع ما في الجلسة، لساعة حاولت ان اتعلم شيئا من الاشارات، حاولت ان استخدم اقل قدر من الكلمات معهم حتى لا احرج نفسي لا خوفا من احراجي لهم، لانني فعلا احسست بأنني انا المختلف بينما كانوا هم الاصحاء.
وكانوا هم الاصحاء فعلا، علمت خلال تلك الجلسة ان الرسائل القصيرة عبر هواتفهم المحمولة هي وسيلة اتصالهم الحديثة، وان احرف الماسنجر عبر الانترنت هي جلساتهم للسمر، لانهم لا يتكلمون منحهم الله براعة في التعبير الكتابي تعجز اقلام كثير من المثقفين عن ان يأتوا بمثلها.
وتعلمت منذ تلك الجلسة انك عندما تلتقي بشخص اصم، فاحذر فهو الاكثر نقاء والاكثر بياضا والاكثر قدرة منك على تمييز الاشخاص لان كل شخص يقف امامهم بمن فيهم انت ستظهر تعابيره وحركات شفتيه بلون مميز يعرفه الصم جيدا ومن خلال تلك الالوان يميزون معدن الشخص، فقد نقضي نحن الاصحاء اياما بل شهورا ونحن نستمع لشخص « يهذر» قبل ان نقدم حكما سليما على شخصه، الا ان الصم يمكنهم ومن خلال لقاء واحد ووجها لوجه ان يميزوا معدن ونوع الشخص الذي امامهم.
الصم اشخاص مختلفون لا لانهم لا يسمعون، بل لانهم الاكثر نقاء.