ذعار الرشيدي
في عام 1994 كنت مكلفا بتغطية جريمة قتل لمصلحة الصحيفة التي أعمل فيها، ولم تكن بأكثر من جريمة عادية ولكون لم يكن لدي أي مصدر أمني في مخفر المنطقة حيث حصلت الجريمة اضطررت للذهاب بنفسي إلى موقع الجريمة ومن ثم إلى المخفر، والتقيت هناك ما أعتقد أنه أهم 100 مرة من جريمة القتل، إلى درجة أنني نسيت تفاصيل الجريمة التي قمت بتغطيتها ولم أنس ما شهدته في المخفر يومها.
كان الطقس باردا اضطررنا جميعا للجلوس في ردهة المخفر الداخلية والساعة تشير إلى الحادية عشرة ليلا، وجلست بجانب رجل جاوز السبعين من العمر ظل مطرقا رأسه طوال فترة جلوسي بجانبه ويبدو أنه نسى كل ما حوله ودخل في دائرة من التفكير المسموع، وكنت عرضا اسمع كل ما كان يقوله ومن بينها جملة ما أزال استحضرها حتى اليوم خاصة عندما أرى مسنا مطرقا رأسه، كانت الجملة التي لا يمكن أن أنساها هي قوله: «أنا ما سويت شيء لهم.. يا حرام على سنين عمري اللي قضيتها أربيهم وأراعيهم وأداريهم»، بعد أن نطق بهذه الجملة وبجمل شبيهة ومقاربة لها كنت أسمعها جملة جملة وكلمة كلمة بل حرفا حرفا، بوضوح شديد وكأنه كان يهمس بها إلي.
قاومت فضولي كثيرا قبل أن ابادره «خير حجي عسى ما شر»، نظر لي وابتسم كأنه استدرك أنني سمعت نصف أفكاره التي كان لسانه ينطق بها عفوا وقال «ما كو شيء».
أعدت السؤال بطريقة لبقة بعد أن أحضرت له كوبا من الشاي وفره لي أحد رجال أمن المخفر، وقال لي «يا وليدي أنا صار لي بالمخفر 6 ساعات بقضية اصطدام مروري، بعد أن دهست بالخطأ شخصا بسيارتي، وانتهى التحقيق معي، وأبلغني المحقق أنه لابد أن يأتي شخص ليكفلني، ولدي 6 أبناء أصغرهم أكبر منك وجميعهم ذكور فلم يرزقني الله بابنة وكنت «أكشخ بين ربعي بذريتي من الذكور... العزوة...، هل تصدق أنني اتصلت على منازلهم وأبلغت زوجاتهم منذ الساعة السابعة وحتى اللحظة لم يحضر أحد منهم، والمشكلة أنني لا أعرف سوى أرقام هواتف منازل أبنائي ومنزلي الذي أعيش فيه أنا وأمهم التي بلغت من العمر عتيا كحالتي، وهل تصدق أن أحدا منهم لم يطل علي منذ أن أبلغت زوجاتهم».
طبعا وقبل أن أقدم على الشهامة في كفالة الرجل بضمان بطاقتي سألت رجل الأمن عن تبعيات الأمر فأبلغني أنه مجرد إجراء روتيني، وبعد أن علمت أنه مجرد أمر روتيني قلت له انني سأكفله رغم أنني لا أعرفه، وتوجهت معه إلى محقق المخفر الذي قال لي «سأقبل كفالتك ولو لم تتبرع لكنت انتظرت نصف ساعة أخرى وكفلته شخصيا» واثناء النقاش، دخل رجل تبدو عليه «النعمة» شاب في الثلاثينيات «كاشخ حده»، وصافح الرجل المسن بطريقة أشد برودة من الطقس الذي كان يقرص مفاصلنا في تلك الليلة الشتوية، كان أحد أبنائه الستة الذي حدثني عنهم، انتهى الأمر بخروج الوالد المسن والابن الذي أزعجه كثيرا أن يتكلف مشوارا إلى المخفر ليكفل والده في حادث مروري عادي.
لم أنس وجه الرجل ولا يمكن ان أنساه ما حييت، فبعد عام قمت بعمل تحقيق عن دور العجزة، ووجدت ذات الوجه الذي حفر في تقاسيمه الزمن جالسا، عرفته لأنني لم أنس نظراته لحظة خروجه من المخفر بصحبة ابنه، جلست بجانبه سلمت عليه، أردت أن اذكره بنفسي وأنني التقيت به في مخفر القادسية قبل عام، ولكنني وجدت الرجل فاقدا للذاكرة نتيجة تقدمه في السن، سألت عنه أحد الموظفين فقال لي انه أتى قبل 6 أشهر ولم تسجل له زيارة واحدة منذ يوم دخوله.
اليوم وبعد 13 عاما من لقائي الأخير به، لا أعلم إن كان على قيد الحياة، وإن كان كذلك فعمره قد جاوز الــ 85 عاما ولا شك، ولكن هل يمكن فعلا أن يكون الأبناء بهذه القسوة؟ هل يمكن ألا يوجد من بين أبنائه الستة الذكور ... العزوة... من تحركت ذرة رجولة بداخله لزيارته ولو لمرة واحدة؟ أين أخطأ الرجل في تربيتهم؟
تعلمت لاحقا أن ثقافتنا قائمة على علو كعب كل ما هو ذكر وأن الأنثى مجرد عيب يسير على كعب، رغم أنني أعتقد انه لو أن الله رزق ذلك الرجل بابنة واحدة لما أودع دار العجزة ولو لساعة واحدة.
لا أعلم لماذا استحضرت حكاية هذا الرجل وأنا أحاول الكتابة عن ميلان الميزان الاجتماعي لدينا الذي جعل من المرأة كائنا ناقصا، وأننا قضينا أكثر من 40 عاما نمنح رجلا أميا لا يفقه ألف باء السياسة ولا غيرها حق التصويت بل ونسمح له بالترشح والوصول إلى قبة البرلمان ليخطط لنا مستقبلنا ونمنع ذلك كله عن دكتورة متخصصة في العلوم السياسية.