ذعار الرشيدي
لست مع ولا ضد النقاب، كوني أدرجه شخصيا تحت باب الحرية الشخصية، ولا أرى أنه من حقي ولا من حق غيري التعليق على اختيار المرأة، ودون الدخول في التفاصيل التي تتداخل فيها الآراء الاجتماعية متقاطعة مع فتاوى دينية ثابتة حول هذا الموضوع، ما يجعل مجرد محاولة الدخول لنقاش ظاهرة النقاب أشبه بمحاولة السير بسرعة 120 ميلا بالساعة بسيارة قديمة على طريق يسده حاجز إسمنتي بسمك «متر ونص»، ما يعني أنه لن ينال الشخص الذي ينوي الدخول في مناقشة قضية كهذه سوى كسر مضاعف في جمجمته في مجتمع أغلق منذ زمن بعيد غرف طوارئ نقاشاته الاجتماعية واستبدلها بصيدلية لا تصرف سوى علبتي دواء الأولى كتب عليها «حرام» والثانية «عيب»، صنعت الأولى في مصانع متأسلمة والثانية في مصانع مجتمع يعتقد أنه وصل الى أعلى درجات المثالية، والاعتقاد الأخير هو الاعتقاد الذي «ودّانا في ستين داهية».
قلت وأكرر انني لست ولم أكن يوما ضد النقاب، كل شخص حر فيما يلبس، ولكن الشرط الرئيسي ألا يكون الحكم على الآخر من خلف فتحتي النقاب، نعم من حق المرأة أن تتحجب أو أن تتنقب وفق قناعاتها التي استقتها إما من محيطها العائلي أو الديني أو قناعتها الشخصية، ولكن اللباس كما أنه حرية شخصية - كما قلت - إلا أنه لا يمنح صاحبته أو مؤيده حرية الحكم على الآخرين، ولا يضعها في مصاف المفتين أو القيمين الاجتماعيين للحكم على تصرفات الأخريات، فأكثر ما يسيء أن ترى منقبة أو محجبة تحكم على الأخريات وفق ما يرتدين، والأمر لا ينسحب على النساء والفتيات المنقبات والمحجبات، بل حتى على كل من يقرر أن يبدي التزامه الديني عبر تقصير ثوبه وإعفاء لحيته، ليتحول فجأة إلى قيم على أخلاق المجتمع، رغم أن اللحية ليست شهادة علمية ولا تؤهل صاحبها لدرجة فقهية معينة، وللأسف ان البعض ممن يلتحون فجأة يرون أن من خالفهم في الشكل هو شخص «مو زين» حتى إن لم يكونوا يعرفونه أصلا، مطلقين بذلك حكمهم لمجرد أنهم رأوه في الشارع مصادفة «حالقا» لحيته.
شيء جميل أن يلتزم الشخص، ولكن أن يكون التزامه وفق حدود حريته الشخصية لا التعدي على حريات الآخرين في استسهال إطلاق الأحكام عليهم، فتجده يحكم على الآخرين وفق ما يرتدونه، فهذا «زين» وهذا «شين»، وهنا أكبر الأخطاء التي يقع فيها كثير ممن ينوون الالتزام للأسف، فتجد كل من هو مخالف لطريقة لبسه شخصا سيئا بالضرورة، وطبعا هنا أتحدث عن العامة ولا أتحدث عن علماء الشريعة، فعلماء الشريعة ينطلقون وفق رؤى وقناعات عقلية ودينية ودراسة شرعية وافية لأي أمر ينوون الخوض فيه، أما العامة ممن يعتقدون أن الالتزام هو أول طرق حق امتلاك إطلاق الأحكام على الآخرين، فتجد مثلا أن بعض النساء يقللن من شأن امرأة لمجرد أنها ليست محجبة أو منقبة وأصبحت اسطوانة «فلانه زينة... بس سفور» رغم أنها ربما تحمل شهادة في تخصص علمي نادر.
وحتى لا يكون أمام من يريد فهمي خطأ طريق أريد أن أوضح شيئا مهما، أنه بين عامي 2005 و2007 كانت جميع الطالبات المتفوقات في جامعة الكويت بكلية التربية من المنقبات بل الملتزمات دينيا أيضا.
وما قصدته أن يكون النقاب لباسا شخصيا، كل حر فيما يرتديه، لا أن يكون وسيلة تحولنا إلى حكام على أخلاقيات الآخرين، فأنا ارتدي الغترة والعقال والدشداشة، ولكن هذا لا يزيدني وطنية ولا يمنحني الحق في أن أحكم على من يرتدي الجينز والتي شيرت بأنه شخص «مو مضبوط» أو أنه أقل وطنية مني لمجرد أنه تخلى عن زينا الوطني.
مصر الخمسينيات كان من لا يرتدي الطربوش فيها «مش أفندي» ومع اندثار الطربوش، لم يتغير شيء وبقي المجتمع المصري كما هو، وستختفي طرابيشنا «غترتنا وعقالنا» خلال عشرين عاما على أبعد تقدير، وهذا لا يعني أننا تغريبيون أو أننا تخلينا عن هويتنا، فالهوية في القلب واللسان وليست فيما نلبس.
الاسكتلنديون مثلا تخلو منذ مائة عام عن تنوراتهم القصيرة التي اشتهروا بها، كونهم الشعب الوحيد في العالم الذي يرتدي رجاله التنانير القصيرة، ومع هذا بقي الاسكتلنديون شعبا راقيا وإرثه لا ينكره أحد، والغريب أن كثيرا من «ربعنا» ممن تفاعلوا مع البطل الاسكتلندي الشهير «والاس» الذي لعب شخصيته النجم ميل غيبسون في فيلم «قلب شجاع»، رأوا كيف تحرر الشعب الاسكتلندي على يدي والاس، ولكنني لم أجد شخصا واحدا ممن شاهد الفيلم علق على تنورة البطل وقال «مو زين» أو لابد أن نطبق عليه قانون «التشبه بالجنس الآخر».
مشكلتنا كما قلت هي أننا نتخذ مواقفنا من الآخرين وفق ما يرتدونه، رغم أن الرداء حرية شخصية قبل أي شيء آخر، ولعكس وجهة سير الحديث، إلى ضفة أشمل، نجد أن البعض من الكتاب وللأسف يرى أن النـــــقاب دليل على تخلف المجتمع، وهو أمر غير صحــــــيح، فكـــــما ذكرت في تدليــــلي متفـــــوقات كلية التربــــية من المنقبات، بل أغلب من تسيدن المراتب الخمسين الأولى في الثانوية العامة لهذا العام كن من المنقبات.
في النهاية ما قصدته أن النقاب ليس أكثر من مجرد لبس شخصي فقط، ولا يحمل دلالة على أي شيء آخر، ولا يمكن أن يكون دليلا على أي شيء، ومن يسير وفق قناعة أن اللباس يدل على شيء هو شخص «ما عنده سالفة»، خاصة في مجتمع ينادي بالتعددية ويطالب نوابه بسن قانون الأحزاب.