ذعار الرشيدي
عندما كتب الشاعر «المجهول» الذي لا يعرفه أحد بيته الشهير جداً:
كأننا والماء من حولنا
قوم جلوس ومن حولهم ماء
لم يكن يعرف أن غباءه سيقود إلى تخليد بيته الذي لا لازم له لا في الدنيا ولا في الآخرة سوى ان أمة لا إله إلا الله وشعوب لغة الضاد ستتخذه للتدليل على قمة السذاجة في الوصف الذي جادت به قريحة لم تتفتق الا عن ذلك البيت اليتيم الساذج المتدثر بعباءة الغباء.
ولم تبخل جيناتنا العربية بالجود علينا بمثل هذه النوعية من أصحاب الوصف الغبي، فقد ولد نحو ألف وأكثر من أحفاد ذلك «الشاعر المائي» وروونا طوال سنين من خزعبلاتهم المائية التي نشروها على عتبات أسماعنا بمناسبة ومن غير مناسبة، ولم ينسحب تأثير تلك الجينات «المائية» على الشعراء ومثقفي الأمة فقط بل طالت حتى الساسة.
وما أكثر الساسة «المائيين» هذه الأيام نوابا ووزراء وحتى النبت الغريب الجديد المسمى بـ «الناشطين السياسيين»، فتصريحاتهم لا تسمن ولا تغنى من جوع ولا تقدم ولا تؤخر سوى أنها ملء فراغات في زمن كثر فيه عشاق الثرثرة ومدمنوها، فتجدهم يمطروننا بتصريحاتهم «المائية» كل صباح إما لتسجيل موقف رغم أنه لا داعي له أو لتسجيل حضور رغم أن بعضهم أكثر من يغيب عن اللجان البرلمانية بل عن جلسات مجلس الأمة، وكأنهم يعوضون غيابهم في المجلس بحضورهم الورقي.
حتى في مثل هذا الوقت الحرج سياسيا، نجدهم يخرجون ليصرحوا بأي شيء ولأي شيء وعن أي شيء إلا القضية الرئيسية التي هي مثار الجدل اليوم سواء الاستجوابات أو الوضع العام للحالة السياسية للبلد وإلى أين ستذهب وإلى أي مصير نحن سائرون في ظل تسجيل 60 حادثا سياسيا في الساعة الواحدة.
«السكوت هو التوقف عن الكلام لأنه لم يعد لديك ما تقوله، أما الصمت فهو أن تسكت رغم قدرتك على الكلام ورغم أن لديك الكثير مما تستطيع قوله»، والصمت هنا فضيلة أما السكوت فمجرد حيلة بعد نفاد الكلمات.
وفي مشهدنا السياسي اليوم رغم أن كثيرا من الساسة ليس لديهم ما يقولونه لنا إلا أنه بدلا من الجنوح إلى السكوت فضلوا إمطارنا مع اشراقة كل صباح بوابل مما يجوز وما لا يجوز من الكلام سواء المباح منه أو غير المباح بتصريحات أفضل ما يمكن أن توصف به أنها «مائية» بلا لون ولا طعم ولا رائحة، فلا هم ارتكبوا فضيلة الصمت ولا هم لجأوا إلى السكوت كوسيلة تسترهم وتسترنا من «قرقتهم».
فمتى يتوقف هؤلاء المائيون عن إمطارنا بتصريحاتهم، ويبدأون فعليا بممارسة العمل السياسي الحقيقي والتصريح بما يفيد ويؤدي إلى نتيجة ملموسة بدلا من التصريحات المطاطية التي غالبا ما تدرج في خانة «تسجيل حضور» و«شوفوني أنا موجود».
ولو جاز لي أن أهدي لهم قصيدة لأهديتهم رائعة بيرم التونسي التي تقول كلماتها الصالحة لكل زمان ومكان عربيين:
يا اهل المغنى دماغنا وجعنا
دقــيـــقـــة ســــكــــوت لله
دحنا شبعنا كلام ماله معنى
يــا ليل ويــا عـين ويـــا آه