ذعار الرشيدي
من المؤسف أن نبرة بدو وحضر تتنامي هذه الأيام كمد سونامي عنصري يعصف بالبلد كله بلا أدنى مبرر لذلك، والمصيبة أن كبارا من الطرفين وأخص كتاب الصحف يذكون نار تلك النبرة ويرقصون على جال ضوئها وكأنهم فرحون أن هناك شيئا ما هناك يحترق، ويتخذون من إذكاء النار وسيلة لتسليط الضوء عليهم حتى ولو كان ذلك الضوء صادرا من نيران تشتعل في جنبات الوطن .
أولا: لا يمكن لعاقل أن ينكر أن هناك معضلة حضر وبدو موجودة في المجتمع الكويتي منذ أكثر من زمن بعيد وتشكل شرخا لا يمكن أن تخطئه عين يرتكز بين جناحيه، ولكنه شرخ ظل حديث صالونات لا أكثر لا يتعدى «حجوة» ديوانية وطرح مساوئ الآخر في ديوانية الآخر، إما على شكل نكتة عابرة أو على شكل حديث مرير مغلف بطعم الكراهية لـ «الآخر».
نعم هناك بدو يكرهون الحضر «كره العمى» وهناك حضر يكرهون الأرض التي يمشي عليها البدو، ولكن كارهي الأرض وكارهي العمى أولئك قلة وهم عبارة عن مجموعة من الطرفين لا تجيد تعليق فشلها في أي شيء في الحياة إلا على شماعة «الآخر».
النبرة تصاعدت في الأيام الأخيرة وبشكل اختلطت فيه الأوراق إلى حد وصلنا معه إلى عدم القدرة على التمييز بين الأشياء، لتصبح الصورة أحيانا جملة «أن دعاة الاختلاط والتفسخ هم الحضر ودعاة التزمت والتخلف هم البدو»، وليس في الجملة السابقة أي رائحة من الصحة فلا الحضر هم دعاة للاختلاط والتفسخ ولا البدو هم دعاة التخلف، وتذهب الجمل إلى أبعد من هذا فقد انطلق مارد الحديث عن الحضر والبدو من قمقم الصالونات إلى فضاء الشارع وأصبح حديثا مشاعا مصحوبا بالفعل المقيت أحيانا لتجد المتاجرين بالبلد يطلقون جملا في ديوانياتهم كـ «الحضر أكلوا البلد» و«البدو خربوا البلد» وتدور هاتين الجملتين في فلك ألسنة العقلاء وغير العقلاء وبعض ممن يحق لهم الترشح لمجلس الأمة الذين لم يتوانى أحدهم في القول «إن نصف الكويتيين لا يستحقون الجنسية» في إشارة منه إلى البدو، لتنطلق صرخة أخرى من هناك لمرشح آخر قائلا: «يريدون أن يحرمونا من مواطنتنا» في إشارة لا تقبل الشك نحو الحضر، رغم أن أيا من الجملتين لا تعدو ان تكون حديثا عنصريا مقيتا من الطرفين، ولا تحمل أي دلالة علمية حقيقية على أرض الواقع ولا تعدو ان تكون جملة تقال عرضا وقد تلقي البلد في مهاوي أتون لا قبل لأحد به ولكنها تقال وتنشر وتنتشر وتجد لها للأسف آذانا فارغة ولا أقول صاغية تأخذها دون تفكير وتعيد تصديرها إلى الآخرين بعد أن «تمولحها».
الذي يريد أن يرى الأمر على حقيقته فليتجه إلى الصحف الإلكترونية وليقرأ التعليقات التي يطلقها قراء المقالات التي تنشرها تلك الصحف الإلكترونية ويمكنكم العودة إلى أرشيف صحيفة «الآن» الإلكترونية لتعرفوا حجم النفس العنصري البغيض الذي يتنامى بشكل مخيف من الطرفين لا من طرف دون آخر، وسنجد هناك تبادل اتهامات مستهجنا بجمل عنصرية مستهلكة وجميعهم المعلقون يعلقون فشلهم في الحياة على الآخر، فالبدوي الفاشل يعلق فشله على شماعة الهجوم على الحضر والحضري الفاشل بدوره يعلق فشله على شماعة الهجوم على الحضر، وهكذا تتنامى كرة الثلج وتتدحرج ونحن نتفرج.
والغريب بل والمستغرب أنه وبدلا من أن يأتي الكتاب المتنورون المثقفون «الفاهمين العاقلين» لاستخدام أقلامهم في إطفاء نيران مثل هذه الفتنة لتنوير الخلق، تجدهم يظلمونها ويقطعون الماء عن قرائهم ليدخلوا في وصلة الردح المتبادلة بين الطرفين من الطرفين، بل إن بعضهم يفجر في خصومته للطرف الآخر ويعلنها كأنها حرب ما قبل يوم الدينونة، والأغرب أن كل شخص من الطرفين يأتي وكأنه يتحدث نيابة عن الطرف الذي ينتمي إليه بعد أن حصل على تفويض قانوني بالحديث على ألسنة جميع الحضر أو جميع البدو.
في ظل هذا السجال العنصري الذي نعيشه هذه الأيام توجد كارثة أكبر هي أن فقراء البدو وفقراء الحضر صامتون لا صوت لهم، فالصوت الذي يخرج من كلا الطرفين هو إما صوت المتنفعين من الطرفين فقط إما لغرض انتخابي رخيص أو لغرض اجتماعي أكثر رخصا أو حتى ولو كان لغرض استعراضي بنظام «شوفوني أنا شري ما أرحم».
ولا أعرف من هو «الذكي جدا» الذي يعتقد أنه لكي يتطور المجتمع لابد أن نلغي البدو من الخارطة السياسية ورغم أن الهيئات العلمية في الكويت سواء في مؤسسة الكويت للتقدم العلمي أو غيرها سنجد نصف العاملين فيها من الأستاذة هم من البدو، على الطرف الآخر هناك من يعتقد أنه لكي نعود إلى الدولة الدينية الفاضلة علينا أن نقف بوجه الحضر فهم من يريدون هدم المساجد رغم أن الهيئات الخيرية في البلاد أسسها حضر والمساجد الأولى في البلاد أقام أغلبها حضر ومفتي البلد حضري وكثيرا من خطبائها حضر، المطالبات والتعليقات غير منطقية على الإطلاق.
هلا توقفنا قليلا وفكرنا من هو المستفيد؟ لن أقول الحكومة، فالحكومة لن تكون شماعتي هذه المرة، ولكن المستفيدين من إذكاء نار كهذه هم بعض ممن يريدون أن يتخذوا هذه الطريقة كسلم للوصول إلى كرسي البرلمان من الطرفين عبر دغدغة مشاعر مجاميع من الطرفين، ولو كان من بين أولئك البعض مرشح حضري في دائرة يكتب لها النجاح على أن يشتم الحضر لفعل دون تردد، ولو كان من بين بعض أولئك بدوي يحتم الأمر عليه أن يشتم البدو والأعراب ومن لف لفهم لما تأخر قيد أنملة، المسألة برمتها هي مصلحة شخصية للبعض من المتاجرين بقضية تلك الشماعة التافهة للوصول.
المسألة ليست مسألة حضري وبدوي بل مسألة مصالح شخصية على مستوى مرشحين أو على مستوى نجوم سياسة أفل نجمهم وأرادوا العودة إلى الحياة بشتم هذا الطرف أو ذاك، أما على مستوى الأشخاص العاديين فهي مسألة أشخاص فاشلين في الحياة «طرق الأقساط والمسباح» سواء كانوا بدوا أو حضرا يعلقون فشلهم في الحياة على الطرف الآخر.