ذعار الرشيدي
شعور غريب يعتريني كلما ارتفعت درجة حرارتي، فالاسبوع الماضي عندما اخترق مقياس درجة حرارتي حاجز الـ 39 مئوية وكنت في سيارتي لحظتها وجدت نفسي متسامحا مع كل السائقين من مستخدمي الطريق ـ على غير عادتي ـ وجملة «روح الله يسامحك» لا تفارق لساني كلما مال علي احدهم بسيارته او جاء مسرعا من الخلف بدلا من جملتي الدائمة «الله لا ...»، الاهم انني كنت اقود سيارتي ـ وعلى غير العادة ايضا ـ بسرعة اقل من 80 كيلومترا، لحظتها احسست بأنني متصالح مع نفسي ومع الكون ومع كل الكائنات المحيطة من بشر وعصافير وقطط واشجار، كنت احس بأن حياة الزهاد تعتريني الى درجة انني لو وجدت صومعة على الطريق لتوقفت لأتعبد فيها.
درجة حرارتي التي ارتفعت فجأة جعلتني اسير بهدوء شديد واتحدث بأناة وصوت لا يكاد يسمع، لم تخطر في بالي لحظتها سوى الاشياء الجميلة، وكأن الحرارة قد اذابت كل ذكرى سيئة في خاطري، وقتلت كل فكرة قبيحة في ذهني.
دخلت المنزل وكأنني اسير فوق سحابة من هدوء وسلمت على ابنائي بصوت خافت وكأنني ارى في اعينهم جملة «شفيه اليوم شنو هالملائكية اللي حطت عليه؟»، توجهت الى كنبتي المفضلة وتناولت الريموت كونترول وكان فيصل القاسم يصرخ بأعلى صوته: «هل تعتقد ان اميركا والكويت واسرائيل هي سبب مشكلات العالم؟»، وللمرة الاولى لم استطع ان اكره القاسم رغم انه يستحق وبلا منازع اوسكار كراهية ثلاثة ارباع العالم العربي، ادرت التلفاز على قناة للأفلام لأشاهد فيلما سخيفا للممثل المجنون بالعظمة جان كلود فان دام والغريب انني لم اكرهه ايضا وهو الذي يجعلك تتمنى لو انه لم يتم اختراع السينما بسببه، ووجدت في قناة افلام اخرى فيلما يعرض للمخرج الاميركي الذي لا اطيقه وودي آلان، يقول الجميع انه عبقري الا انني لا اطيقه لا هو ولا افلامه ولا حتى طريقة حديثه، الغريب انني استطعت ان اندمج مع جزء من الفيلم.
مع ارتفاع درجة حرارتي اكثر فأكثر كانت وتيرة تقليبي لقنوات التلفزيون تزداد حتى اصبت بـ «حول المشاهدة» ووصلت اثناء التنقل الى قناة اسلامية الطابع ووجدت برنامجا لاحد المفتين الجدد وقال لا فض فوه خير الكلام، ولكنني وعلى غير العادة لم اضحك وهو يجيب احدى المتصلات قائلا: «يا اختي اذا كان زوجك يريد الزواج بأخرى فلا تمنعيه»، حتى انني لم ألق بتعليقي المعتاد عندما اسمع فتاوى من هذا النوع «يا شيخ استريح».
نعم هكذا فعلت بي الحرارة التي لازمتني ليومين متتاليين كنت خلالهما «خووش وليد» لا اصرخ ولا «اعصب» ولا اكره احدا بل انني كنت غير قادر على الكراهية، كنت اقرب الى الانسانية من اي وقت مضى بل انني خلال رحلتي مع الحمى لو رأيت فقيرا لمنحته نصف ما املك، وصحيح ان نصف ما أملك لحظتها لن يشتري له 13 سهما من اي من اسهم الشركات القيادية ولكنه في النهاية نصف ما املك، واعتقد ان هذا هو نصف الطريق الى الكرم وآخر الطريق الى الايثار.
عندما ترتفع درجة حرارة جسم الآدمي بسبب الحمى تصيبه حالة من التبحر وكأنه يرى المستقبل او هكذا صور لي، فقد وجدت ان اكثر مشكلاتنا تعقيدا يمكن ان تحل في جلستين مغلقتين مع عقلي، احسست بانني قادر على تغيير الكون وليس الكويت فقط، فقد حللت مشكلة مزدوجي الجنسية ووضعت حلا جذريا لمشكلة «البدون» وحللت مشكلة القروض والاسكان والصحة والتعليم بل رسمت رؤية طريق التنمية للبلد بخطة عشرية وليست خمسية كما تريد الحكومة ان «تقص وتلصق»، صحيح انه وعندما تعافيت من الحمى ودرجة الحرارة لا اتذكر ايا من حلولي العبقرية تلك ولكن يكفيني شرف المحاولة في لحظة تجلي منحتها لي الحمى التي زارتني ليومين متتاليين.
وليتني كتبت هذه الحلول العبقرية على ورقة حتى اتذكرها، ولكنني اعد مجلس الوزراء بأنني في حال اصبت بارتفاع درجة حرارة مرة اخرى فسأحرص على تسجيل كل الحلول على اوراق واقدمها له فما عليه سوى الانتظار حتى اصابتي اللاحقة، هذا ان لم تستقل الحكومة هذا الصيف، ذلك انني اعتقد ان ما سأكتبه في ورقة تجليات الحمى من حلول سيكون افضل 100 مرة من خطة تنموية أشتم فيها رائحة «القص واللصق».