في الصف الرابع الابتدائي ألقى علينا الأستاذ علي الشمري درسا خارج المنهج، وكان درسه عن فن تعليمنا كيف يجب أن نقف ونبدي وجهة نظرنا بكل شجاعة دون اعتبار لحجم أو مقام الشخص الذي أمامنا، وبصراحة وبعد انتهاء الدرس «الثورجي» لم أكن أطيق انتظارا ليدق جرس «الهدة» لأقوم بتطبيق عملي حي لذلك الدرس الذي اعتبره وبكل أمانة أول درس لي أتلقاه في حياتي لفرض رأيي على الآخر أيا كان هذا الآخر، خرجت أبحث عمن أطبق عليه هذا الدرس، قصتي طويلة ولم أجد أمامي يومها سوى والدي- أطال الله في عمره- لتطبيق مبدأ الثورة والرفض وأن أقول كلمة «لا»، وفي الحقيقة أنني طبقت الشق المتعلق بالرفض وقول كلمة «لا» وكانت صريحة وواضحة ومدوية بل ومفاجأة، ولكن أذني ظلت «تطن» ليومين متواصلين جراء كف محترم تلقيته من الشخص الكبير الذي واجهته بلا مبرر حقيقي، في اليوم التالي حضرت حصة الأستاذ علي الشمري والطنين لا يزال في أذني لم أسمع نصف الدرس، المشكلة أن الأستاذ- سامحه الله- علمني أن أقول «لا» وأن «أثور» ولكنه لم يعلمني أن النتيجة ستكون وخيمة ومؤلمة جدا، والأهم أنه لم يعلمنا على ماذا نقول لا ومتى نقولها ولمن وفي اي اتجاه، كان عمري يومها 9 سنوات، تعلمت أهم درس في حياتي وهو أنك يمكن أن تعترض وتبدي رأيك وترفض ولكن شريطة أن يكون الاعتراض في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة والأجواء المناسبة أيضا، بعدها ظللت حتى الصف الثاني المتوسط وأنا لا أبدي اعتراضا على شيء، فأنا أولا لم أجد طوال تلك الفترة ما أعترض عليه، والأهم أنني لم أكن أحب صوت الطنين في أذني، صحيح أن الكف الذي حصلت عليه لم يخرق طبلة أذني، ولكن هل يمكن أن تتخيل طفلا في التاسعة يعاني من صداع وطنين مستمرين لمدة يومين كاملين؟
اعترف بأن اعتراضي في المرة الأولى كان خطأ فادحا، ولكنه كان «طراق بتعلومة»، تعلمت منه متى وكيف ولماذا أعترض، المرة الثانية التي قررت فيها أن أبدي اعتراضي كنت في الثانية عشرة من عمري، وكنت ألعب دورا رئيسيا في مسرحية مدرسية، واعترضت على أداء المدرس الذي كان يتولى اخراج المسرحية والذي -سامحه الله- واجه اعتراضي له بكف «جو.. خد» حتى أن الدنيا دارت بي لمدة خمس ثوان قبل أن استعيد إدراكي للمكان والزمان، يومها كنت على حق، وهو كان على خطأ، وحملت خدي «المحمر» وأذني التي تطن وتوجهت إلى مكتب الوكيل وكان الأستاذ بدر الثابت، وأبلغته بما حصل وأنصفني جزاه الله خيرا، تحولت من بعده من تلميذ ضرب أمام زملائه إلى بطل «مدرسي» بعد أن أخذ الوكيل يومها لي بحقي باعتذار المدرس وأعتقد أنه عاقبه أو وبخه.
المعارضة لدينا، أو من أغلب ممن يركبون موجة المعارضة، يشبهون حالتي الأولى، فهم يعارضون من أجل المعارضة فقط، ولو سألت معظمهم لم يعارض؟ لما منحك سوى إجابات عامة عن فساد وتجاوزات على الحريات، ولكنه لن يجيبك تفصيلا بأنه يعارض بحثا عن الحق أو الحقيقة، كون أغلبهم إما متحزبا أو منتميا لتيار أو يتبع معسكرا سياسيا من مصلحته إذكاء نار المعارضة، أما من يشبهون حالتي الثانية فللأسف هم قلة، أعني من يعارضون بحثا عن المصلحة العامة، النائب صالح الملا أحد هؤلاء القلة، وهنا أعرضه كحالة من بين عدد كبير من الحالات التي تعارض من أجل المصلحة العامة، ولكن ذكرته لأنه الأبرز من بينهم.
أحترم كثيرا بل علينا جميعا أن نحترم المعارضين غير المتحزبين أو غير المصطفين، فهم النخبة الحقيقية للمعارضة المنصفة والعادلة للوطن قبل أن تكون منصفة لأشخاص.
توضيح الواضح: والدي- أطال الله في عمره- لم يمد يده علي سوى في ذلك الموقف عندما واجهته بكلمة «لا» بدون داع، ليس لكراهية منه لي، بل لأنني فعلا عارضت شيئا لم يكن يجب أن أعترض عليه، واعتذر مني وأطال الله في عمره علمني درسا مهما وهو أن تعارض فاعلم لم تعارض وأن تعارض على حق، أما أن تعارض فقط لمجرد أن تركب الموجة فتحمل «الطنين».
توضيح الأوضح: أعلم يا أبي أنك تقرأ مقالاتي، ويعلم الله، أنني أحبك ويكفيني فخرا أنني ابنك، فلا تزعل من إيراد ما كتبته هنا عن حادثة عمرها أكثر من ربع قرن، وسامحني طال عمرك.
[email protected]