أتذكر في بداية التسعينيات عندما كنت أسأل ممن يطلقون على أنفسهم شعراء الحداثة عن قصائدهم التي لا أفهم منها شيئا، ولا أحل ولا أربط جملة ولا صورة ولا تشبيها لا بليغا ولا «مليغا» كانوا يقولون لي «فضت أفواههم وضاعت حلوقهم كما أضاعوا الشعر»: «يا أخي نحن لا نكتب لجيل اليوم ولا لأبناء اليوم بل نكتب لجيل المستقبل، نكتب للغد، وسيأتي بعد 25 عاما أو حتى قرن من الزمان من سيفهم شعرنا ويقدره ويعرف معناه فنحن لا نكتب لكم ولا إلى عالمكم المليء بضيق الفهم»، وكانت هذه الجملة تقصر أو تطول هو ما كان يقوله شعراء الحداثة قبل 15 عاما ولايزال بعض منهم يقاوم ويرفع تلك الجملة أو عذر المائة سنة القادمة ويصر على أن ما يقوله شعرا، رغم أن «نصوصهم» لو مر أحدهم بها على المعري لصنفهم في الدرك الأسفل من النار بحسب رسالة غفرانه، ولو قرأ المتنبي من قصائدهم شطرا لقال فيهم ما لم يقل في هجاء كافور الاخشيدي، ولو سمع بهم أو بشعرهم جرير لكتب فيهم «دامغته».
عذر شعراء الحداثة أنهم يكتبون للمستقبل، وهو عذر «أبيخ» من ذنب كتابتهم لقصائدهم التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تستحق أي منها جواز مرور «مادة 17» لمدينة الشعر، ففي ملتقياتهم يقرأون ما لا يفهم وفي أمسياتهم الـ «5 أنفار» يلقون ما يستحق الرشق بالطماطم والبيض من «نصوص» تصلح لأن تكون أي شيء عدا الشعر ويصرون على أن ما يلقونه هو الشعر بعينه، فهم كمن يأتيك ببقرة ويحلف لك بأغلظ الأيمان أنها فرسا أصيلة وحتى يثبت لك ذلك تجده يمتطي «صهوة» بقرته على طاولة أي من أمسياته ليلقي على مسامعك خوارا محاولا إقناعك أنه صهيل خيل أصيلة ولكنه أخفاها على هيئة بقره ليرسلها إلى جمهور ما بعد المائة عام.
الأغرب من ذلك الشاعر - حاشاه أن يكون شاعرا - لا يكتفي محاولة تغيير الأجناس الأدبية ويقلب البقرة فرسا، بل يأتيك بنقاد يؤيدون كلامه ويكتبون المقالات النقدية التي تؤكد أن كل ما يدعيه حول بقرته الشعرية هو الصحيح بعينه وأن الخلل في عينيك بل ومكمن الخلل في أيام دراستك الأولى ويشرحون لك كيف أن مدرس العلوم في الابتدائية لم يقرأ عليك درس «كيف يمكن أن تكون البقرة فرسا».
في النهاية إذا قلت لهم لا أفهم ما تقولون رموك بتهمة «التقليدية» وهي تهمة تستحق في نظرهم أن يتم طردك من دولة مثقفيهم وجنان ملتقياتهم وأجواء أمسياتهم الجماهيرية» أم الـ «5 أنفار»، ثم قالوا لك «نحن نكتب للأجيال القادمة»
أسلوب شعراء الحداثة أو من يسمون أنفسهم بشعراء الأجيال القادمة يشابهون بعض الساسة اليوم الذين يرون أن شراء الفوائد أو إسقاط القروض سيضر بمال الأجيال القادمة، وسينسف ثروات البلد المخبأة للأجيال الآتية بعد 100 عام، وأن هذا الشراء «المشبوه» في نظرهم سيعمل الويل والثبور في تماسك البلد، وبعضهم تفوق على شعراء الحداثة في نظرته إلى أن المديونيات سواء بشرائها أو بشراء جزء منها أو القروض سيضرب الاقتصاد في مقتل وسيسحب الحديدة من البلد بعد أن يتركنا جميعا على الحديدة، وربما يكون معهم حق فيما قالوه أو دعوا إليه، ولكن ألم يتم دفع مليار دولار قبل أشهر لشراء ديون مسمومة؟ وألم يتم ضمان 50% من الودائع في البنوك؟ وألم يتم قبل شراء المديونيات؟ وقبل ذلك كله ألم تدخل الدولة وتدفع مئات الملايين بعد أزمة المناخ؟ وكل عمليات الشراء المليارية تلك لم تضر المال العام ولم تضرب الاقتصاد في مقتل رغم أنها قوانين فصلت لصالح «5 أنفار» وفي بعض الأحيان لـ «30 نفرا»، وتكلفة المشروعات السابقة أعلى وبكثير من تكلفة القانون الجديد الذي أقره مجلس الأمة لشراء الفوائد وليس «إسقاط الديون» ولا «شراء مديونيات 5 انفار» ولا «ترقيع لـ 3 أنفار»، بل ويدعون أن قانون شراء القروض اليوم هو جرح في وجه العدالة بينما قانون المديونيات بالأمس القريب كان قمة العدالة.
فتبا ألف تب لسياسي يحمل العدالة في علبة سيجار كوبي ليهديها لـ «معزبه» في قانون ملياري، ويحول العدالة إلى كرت أحمر في وجوه فقراء يطالبون بإنقاذهم من فوائد كسرت ظهورهم.
[email protected]