إعداد: أحمد صبري
كلمات كطلقات الرصاص انتقد واتهم بها معظم أركان القيادة السياسية الأميركية الكبرى، كلمات خرجت من فمه كأعيرة نارية دون أدنى محاولة منه للسيطرة عليها او التحكم فيها، فأصاب بها الادارة الاميركية ككل قائلا: إن مجموعة من الضعفاء يشرفون على الاستراتيجية الحربية الأميركية ضد «طالبان». وعندما أدرك قليلا مدى خطئه.. حاول إمساك لسانه لكنه لم يستطع فأفلت منه الزمام تجاه نائب الرئيس الاميركي جو بايدن ليسخر قائلا: «من هو بايدن؟» ولم يسلم منه المبعوث الرئاسي ريتشارد هولبروك، ثم أدار مدفعه الكلامي صوب مستشار الأمن القومي الجنرال جيمس جونز ليصفه بأنه مهرج، هذا الكلام القاسي وغير المسبوق تجاه إدارة الرئيس الاميركي باراك اوباما وضع حدا للحياة العسكرية لقائد قوات الناتو والقوات الأميركية في أفغانستان الجنرال ستانلي ماكريستال، وجاءت بالجنرال ديفيد بترايوس ليحل مكانه، ولكن هل انتهت الأزمة التي أشعلها ماكريستال؟
صحيح ان قرار تعيين بترايوس كان اختيارا ممتازا لأنه يحفظ توازن الجبهة وزخم اندفاعة المواجهة ضد «طالبان»، ويريح حلفاء اميركا في الحرب، ولكن الصحيح ايضا يبقى دائما انه من الخطأ تغيير الخيول وسط السباق، وإقالة القيادات وسط المعركة.
ورغم أن تصريحات ماكريستال النارية لمجلة «رولينغ ستون» تضمنت انتقادات للمستوى السياسي الذي يملك قرار الحرب في واشنطن، وهو «أمر يقوض السيطرة المدنية على القوات العسكرية ويمس جوهر الديموقراطية» كما قال أوباما في إعلان إقالة ماكريستال، لكن لن يخلو الوسط العسكري في قيادة الجيوش الاميركية من شعور بالمرارة والامتعاض ولو في صمت، لأن ضابطا من نوعية ماكريستال، لم يكن ليدلي بتصريحات تنتقد المستوى السياسي، لو لم يكن هناك شعور بالاستياء في أوساط العسكريين والعاملين في ميادين القتال.
ما الحقيقة؟
معروف أن ماكريستال كان صاحب فكرة زيادة عدد القوات الأميركية في أفغانستان التي وافق عليها أوباما العام الماضي، وبالنظر إلى أن الحقائق على الأرض جاءت على عكس ما توقعه الأميركيون، فقد تصاعدت حدة الاتهامات المتبادلة بين أركان إدارة أوباما ولذا سرعان ما خرج ماكريستال على الملأ ليفضح المستور في هذا الصدد في محاولة لتبرئة نفسه من تحميله وحده مسؤولية فشل استراتيجية أوباما الجديدة في أفغانستان.
وأبرز التصريحات النارية لماكريستال لمجلة «رولينغ ستون» كانت ضد السفير الاميركي في افغانستان، قائلا: «إنه يشعر بالخذلان من كارل إيكينبري».
وتابع ماكريستال انه شعر بالخذلان من إيكينبري خلال المناقشات التي دارت داخل البيت الأبيض العام الماضي حول طلب إرسال أعداد إضافية من القوات الأميركية إلى أفغانستان، قائلا: «إيكينبري كان يستخدم مذكرة داخلية تم تسريبها حول طلب زيادة القوات كوسيلة لحمايته من الانتقاد في المستقبل إذا ما فشلنا في مهمتنا».
وسخر أيضا من رسالة إلكترونية وصلته من ريتشارد هولبروك المبعوث الأميركي الخاص لباكستان وأفغانستان، قائلا: «آه، لا تقل رسالة إلكترونية أخرى من هولبروك، أنا لا أريد حتى أن أفتحها».
كما أنه قلل من شأن نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، ووجه إهانة لمستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي جيم جونز وهو جنرال سابق وبارز حيث وصفه بأنه «مهرج» وهو الوصف الذي أطلقه على بايدن أيضا عندما قال: «بايدن مهرج الرئيس أوباما».
قرار الإقالة
ويبدو أن السخرية من بايدن تحديدا لم تكن تنبع من فراغ، فمعروف أن ماكريستال كان دخل في مواجهات كلامية علنية في وسائل الإعلام مع نائب الرئيس الأميركي حول استراتيجية الحرب في أفغانستان في أكتوبر الماضي، معتبرا أن حصر رؤية بايدن لهذه الاستراتيجية في إطار الحرب على الإرهاب «قصر نظر» وحذر من أن المهمة ستفشل إذا لم يحصل على دعم عسكري إضافي.
وبعد أن تحقق له ما أراد وتمت زيادة القوات، فوجئ الأميركيون بتصاعد هجمات طالبان أضعاف ما كانت عليه العام الماضي بل إن شهر يونيو الماضي اعتبر الأكثر دموية خلال 2010 حيث لقي 75 جنديا من الناتو والقوات الأميركية مصرعهم حتى 23 من هذا الشهر.
ورغم أن ماكريستال سارع للاعتذار عن سخريته من إدارة أوباما بعد الانتقادات التي انهالت عليه، إلا أن قرار إقالته كان له الكلمة الفصل بعد أن فضح الخلافات بين أركان إدارة أوباما حول الحرب في أفغانستان وأكد في الوقت ذاته فشل استراتيجية أوباما القائمة على زيادة حجم القوات.
وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما قرر في 23 يونيو الماضي إقالة ماكريستال من منصبه وتعيين قائد القيادة المركزية الأميركية ديفيد بترايوس بدلا منه، وقال أوباما في كلمة ألقاها في البيت الأبيض للإعلان عن إقالة ماكريستال: «إن تلك التصريحات التي أدلى بها لا يجوز أن تصدر من قائد في مثل هذا المنصب».
وشدد على أنه لن يكون هناك تغيير في السياسات الأميركية في افغانستان، قائلا: «إن بلادنا تواجه حربا شرسة في أفغانستان والأميركيون لن يقبلوا أبدا أن تكون هناك خلايا إرهابية لشن الهجمات في بلادنا».
وعبر الرئيس الأميركي عن أسفه لاتخاذ قرار الإقالة، قائلا: «لقد كان قرارا صعبا للغاية ويؤسفني جدا أن أفقد شخصا أحترمه كثيرا، وأشكر ماكريستال على ما قدمه»، ورغم أن أوباما يعتقد أنه بهذا القرار استطاع تهدئة الرأي العام الأميركي الغاضب تجاه الحرب في أفغانستان، إلا أن الحقائق على الأرض تؤكد أن بترايوس قد يواجه مصير سلفه ماكريستال سريعا.
فإقالة ماكريستال تعني فقدان قائد محنك له خبرة واسعة في التعامل مع استراتيجيات مكافحة «الإرهاب» التي تنتهجها إدارة أوباما حاليا في أفغانستان، إلى جانب أنه كان يحظى بقبول حكومة الرئيس الأفغاني حامد كرزاي.
كما أن رحيله عن منصبه الحالي سيضعف أكثر وأكثر استراتيجية أوباما في أفغانستان التي كان ماكريستال رسم خطوطها العريضة بل وكانت تدور في فلكه، أيضا، فإن ماكريستال الذي تخرج من أكاديمية «وست بوينت» العسكرية الأميركية المرموقة في عام 1976 هو سليل أسرة لها باع وتاريخ طويل في الخدمة العسكرية، فوالده هو الجنرال هربرت ماكريستال الذي خدم في ألمانيا التي احتلها الغرب عقب الحرب العالمية الثانية، كما أن أولاده خدموا أو عملوا في إطار الخدمة العسكرية بشكل أو آخر.
وترقى ماكريستال منذ تخرجه من «وست بوينت» في المراتب العسكرية على مدى 3 عقود حتى تولى منصب قائد القوات الخاصة في الجيش الأميركي للفترة من عام 2003 وحتى 2008، وخلال تلك الفترة، كان مسؤولا عن تصفية عدد من «الأهداف البشرية المهمة» بالنسبة للأميركيين في العراق وأفغانستان مثل أبومصعب الزرقاوي زعيم تنظيم القاعدة في العراق الذي اغتيل في عام 2006 بضربة جوية أميركية.
وبصفة عامة، يعرف عن ماكريستال (55 عاما) المتزوج وله ابن واحد أنه مدمن عمل ويعيش حياة تقشف وزهد ولا ينام إلا أربع أو خمس ساعات يوميا ويكره المطاعم الفخمة ولا يحب أن يكون تحت الأضواء وهي صفات قد لا يتمتع بها بترايوس، الأمر الذي يثير الشكوك حول نجاحه في مهمته.
مصير ستيراب وكاوبر
وما يضاعف من الشكوك في هذا الصدد، هو أن الحرب في أفغانستان أطاحت أيضا بعدد من أبرز القادة العسكريين والسياسيين في الدول الحليفة لواشنطن، بل إن طالبان باتت توجه رسالة مفادها «الدور على من؟».
ففي 13 يونيو، كشفت صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية أن حكومة ديفيد كاميرون قررت عزل رئيس أركان الجيش البريطاني المارشال جوك ستيراب في إطار سعيها لمعالجة الإخفاقات في مهمة قواتها بأفغانستان.
وأشارت الصحيفة إلى أن المارشال ستيراب تعرض لانتقادات لعدم قيامه بفعل ما يكفي لدعم القوات البريطانية في أفغانستان واتهمه منتقدوه بالفشل في التحكم بسير مهمة القوات البريطانية في أفغانستان حيث وصلت حصيلة قتلاها إلى 300 جندي حتى الآن وفي 22 يونيو، كشفت صحيفة «الغارديان» البريطانية أيضا أن المبعوث البريطاني الخاص لكل من باكستان وأفغانستان سير شيرارد كاوبر والذي دعا للحوار مع طالبان قرر تمديد إجازته في بريطانيا وعدم العودة للمنطقة مما يعني تركه المنصب.
وجاء اعتزال السفير البريطاني المعروف بمواقفه المتشككة من أساليب الحرب في أفغانستان وطريقة تنفيذ الاستراتيجية قبل شهر من انعقاد مؤتمر دولي مهم عن افغانستان في العاصمة كابول يترأسه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والرئيس الأفغاني كرزاي.
ونقلت الصحيفة عن متحدث باسم المفوضية العامة البريطانية في إسلام آباد أن السفير قرر أخذ إجازة طويلة وحلت محله مؤقتا كارين بيرس مدير مكتب جنوب آسيا وأفغانستان في وزارة الخارجية البريطانية.
وأضافت «الغارديان» أن الأخبار حول رحيله المفاجئ تزامن مع إعلان وزارة الدفاع البريطانية أن عدد الجنود البريطانيين القتلى في الحرب وصل إلى 300، فيما أعلن أن كلفة الحرب في أفغانستان والعراق بلغت 20 مليار جنيه استرليني.
وتابعت أن كاوبر كان تصادم في الآونة الأخيرة مع قادة الناتو والمسؤولين الأميركيين حول استراتيجية الحرب القائمة على استخدام الأساليب العسكرية المفرطة للتعامل مع طالبان وطالب بأن يكون الحوار مع الحركة أولوية لإنهاء الحرب.
ويبدو أن الأسوأ للقوات الأميركية وقوات الناتو لم يقع بعد، حيث تدرس لجنة في الكونغرس الأميركي حاليا تقريرا عن نتائج تحقيق في قيام متعاقدين مع الجيش الأميركي بدفع ملايين الدولارات كرشاوى لزعماء الجماعات المسلحة في أفغانستان لتأمين قوافل الإمدادات.
وطبقا لتحقيق استمر ستة أشهر، فإن الشركات التي تنقل الذخيرة والغذاء والوقود والماء للقواعد الأميركية في أنحاء مختلفة من أفغانستان تدفع ملايين الدولارات أسبوعيا لشركات أمن محلية كي تؤمن لها المرور الآمن عبر المناطق الخطرة.
وبحسب التقرير، تنقل هذه الأموال بعد ذلك إلى زعماء حرب محليين وبعض هذه الأموال يجد طريقه إلى حركة طالبان وهو ما يعني أن أموال دافعي الضرائب الأميركيين تستخدم في تمويل طالبان بشكل غير مباشر.
والخلاصة أن أميركا فشلت في أفغانستان وليس من خيار أمام أوباما سوى الانسحاب السريع لتجنب فضيحة مماثلة لما تعرض له الاميركان من قبل في فيتنام.