أصيلة - بشرى الزين
أصيلة هي بتاريخها وبسكانها ومبدعيها وفنانيها، ومثقفيها وضيوفها.
المدينة البيضاء تفتح أبواب بيوتاتها المطلية بزرقة تضاهي صفاء سماء ليلها الساحر، هي الحاضرة الحالمة المستلقية أحياؤها على شاطئ «الأطلسي» تضرب بقدميها في مياه بحرها المتهادية لتذكر زائرها بأن التاريخ عبر البحر وحطت نوارسه في أصيلة وتخاطب ضيفها بألحان العصر دون الرحيل عن أعماق المكان وتستعيد معه حكايات الأمس بأن أصيلة ليست جارة البحر فقط، بل محجاً للسياسيين والمفكرين والمثقفين والفنانين في منتدى الثقافات وملتقى الحضارات في مهرجانها السنوي الذي تجاوز عمر نشأته ثلاثة عقود.
والعارف بموسم «أصيلة الثقافي» لا يكاد يذكره حتى يسبقه اسم «أصيلة» التي منحها اشعاعا ثقافيا وسياحيا ذائعا وجعلها منارة للحوار الذي كرّس حقيقة ان الثقافة رافعة قوية لتداول القضايا العالمية الملحة ولا تقل شأنا عن العامل المادي المحض.
هكذا تلتقي جسور التسامح والحوار فوق بحر أصيلة التي تقع على مشارف المتوسط والمطلة على المحيط الأطلسي وقريبا من مضيق جبل طارق وهي معبر يذكر زائرها بزمان «الوصل بالأندلس» وبأن المغرب الأقصى كان ولايزال قلعة للتواصل مع العالم بعقل «متوسطي متسامح» وبأن أصيلة ميدان ينادي بكل اللغات كل سياسي ومثقف وفنان من وراء «الأطلسي» و«المتوسط» و«الخليج» للمشاركة واكتشاف مهرجانها السنوي الذي اصبح رمزا لتمازج ثقافي عالمي.
ليس البحر وحده يحرك سكون أصيلة، وليس زوارها الذين يوقظونها من سباتها النهاري ليلا، بل شواهد أخرى دالة على أن التاريخ يتدفق غزلا بالمكان يروي لنا تفاصيل أصيلة التي عرفت باسم «زيليس» ايام الفينيقيين وتمردت على قرطاجة وأرادت ان تتميز فصكت نقودها الخاصة.
يشمخ برج «القريقية» مطلا على المحيط الأطلسي وعلى المدينة كلها، وغير بعيد عنه يوجد برج القمرة الذي شهد قضاء آخر ليلة لملك البرتغال دون سيباستيان قبل ان يقود جيشه الى معركة وادي المخازن أو «الملوك الثلاثة» والتي انهزم فيها والجيش الإسباني فعادت بعدها اصيلة الى السلطان احمد المنصور السعدي.
ويطوق المدينة القديمة «القصبة» سور يعود بناؤه الى العام 1471م حيث احتل الجيش البرتغالي اصيلة وكانت المدينة في ذلك الوقت مركزا تجاريا لتبادل السلع المتدفقة من حوض شبه الجزيرة الايبريية وجنوا الايطالية ومرسيليا الفرنسية وباقي المدن المغربية.
لاتزال ملامح التاريخ تنبئ بأن حضارات وثقافات مرت من المكان ففي العام 1829 هاجمها الأسطول النمساوي وتعرضت في 1860 لهجوم إسباني اثناء حرب تطوان ليستولي عليها بعد ذلك احمد الرسيوني وبنى فيها قصرا اصبح الآن يحمل اسم قصر الثقافة وتقام فيه العديد من أنشطة موسم اصيلة الثقافي في باحته وأدواره ذات العمارة العربية الإسلامية الزاخرة بنقوشها وألوانها وقبابها.
وفي أزقة وممرات تحاذي البحر من قصر الثقافة تصلك الى مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية الذي كان مكانا لخزن الحبوب ليتحول بعد ذلك الى مركز رسمي للقاء ضيوف موسم اصيلة الثقافي ومجلسهم الثقافي والأدبي الفكري.
خطوات قليلة من المكان تقف امام باب «القصبة» حيث السوق الشعبي والمطاعم والمقاهي بأسماء روائيين وأدباء عالميين حمل أهل المدينة ذكراهم وفاء لأصدقاء أصيلة، التي حفظت حدائقها أسماءهم حين أطلقت عليها أسماء الشاعر العراقي محمد الجواهري وعبدالوهاب البياتي والروائي السوداني الطيب الصالح والشاعر الفلسطيني محمود درويش.
اما ساحة سيدي بوخبزة فيتربع بالقرب منها صرح ثقافي كبير تجسده مكتبة الأمير بندر بن سلطان التي تم افتتاحها في العام 2004 مزودة بأحدث وسائل التواصل مع كبرى المكتبات العالمية عبر الأقمار الاصطناعية ومجهزة بآليات العروض والترجمة الفورية من وإلى 4 لغات، اضافة الى 3 قاعات للندوات سميت بألوان محتوياتها (الزرقاء، والحمراء والخضراء). فما أصيلة إلا قبلة لكل الأجناس والألوان والمثقفين والأدباء والمفكرين حين رفعت هذه المدينة الصغيرة شعار «الثقافة والفن من أجل التنمية».
طموح التنظيف.. ميلاد مهرجان
قال الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة وزير الخارجية المغربي محمد بن عيسى في كلمة ألقاها في حفل الافتتاح ان المهرجان الذي مرت على بدايته 32 عاما كان تجربة في مشهد وسياق مغايرين يشوبهما شعور بالخوف والفشل إلا ان المغامرة مضت الى أقصى مداها بفضل طاقة متوهجة وإصرار على النجاح الذي استمر يرافق مواسم المهرجان منذ عام 1978 تاريخ انطلاقته.
وذكر بن عيسى انه لم يتوقع ان يكون لمدينته الصغيرة هذا الشأن، اكثر فأكد طموحه كان تنظيفها من أكياس القمامة وردم المجاري والقنوات المفتوحة حين استعان في تلك الفترة بعدد من الفنانين التشكيليين لوضع رسوماتهم على جدران المنازل والأزقة.
ولم يكن سكان أصيلة مقتنعين بـ «فكرة» بن عيسى لكنه واصل المشوار بمساندة من الفنان التشكيلي المغربي محمد المليحي، وعندما أيقن شباب وصغار أصيلة بأن أعمالهم كان لها وقع كبير لدى زوار المدينة الى جانب استفادتهم من الحصول على مقابل مادي لقاء عزفهم الموسيقى كذلك وإمتاعهم ضيوف أصيلة بفنهم حتى أصبحوا الآن عازفين يتمتعون بروح التذوق والحس الرفيع.
ورأى بن عيسى انه ربما لن تستطيع إزالة الفقر بالفنون الجميلة وحدها لكنك تستطيع القضاء على البؤس.