محمد هلال الخالدي
كان صلح وستفاليا الذي وقعت عليه الإمبراطورية الرومانية المقدسة وممالك فرنسا واسبانيا والسويد وجمهورية هولندا عام 1648 أول اتفاق ديبلوماسي في التاريخ الحديث، حيث أرسى نظاما جديدا في أوروبا التي كانت تعيش حالة من الصراع والحروب على الإقطاعيات والسيطرة على الأراضي. ومن نتائج هذا الصلح حصلت سويسرا وهولندا وبعض المقاطعات على اعتراف رسمي باستقلالها، ولكن النتيجة الأهم تمثلت ببداية ضعف هيمنة الكنيسة الكاثوليكية على العقل في أوروبا وبداية التحول إلى العلم والفلسفة.
في عام 1862شغل أوتو فون بسمارك منصب رئيس وزراء بروسيا، وبروسيا إمبراطورية ألمانية كانت تضم معظم الأراضي الأوروبية بعد تسلم أسرة هوهنتسلرن الحكم فيها عام 1701، وهي الأسرة التي عملت على توسيع نفوذ الإمبراطورية الألمانية أكثر فأكثر، فأزاحت مملكة النمسا القيصرية عن قيادة الدول الألمانية وأسست في عام 1871م ما بات يعرف باسم الإمبراطورية القيصرية الألمانية. وفي نوفمبر 1918قامت في ألمانيا «ثورة نوفمبر» التي أطاحت بالإمبراطورية القيصرية الألمانية وحولتها إلى جمهورية برلمانية ديموقراطية بعد أن أجبر القيصر فيلهلم الثاني على التنازل عن الحكم، وأصبحت ألمانيا تعرف بعد هذا التاريخ باسم «جمهورية فايمار» وتم انتخاب فريدريش إبرت كأول رئيس للجمهورية الجديدة.
كانت أوروبا خلال تلك الفترة حلبة للصراعات والحروب بين الإمبراطوريات المحكومة بأسر ملكية، وفي 28 يوليو 1914 كان وريث العرش النمساوي فرانز فردينالند وزوجته في زيارة إلى سراييفو في منطقة البوسنة والهرسك، فقام طالب صربي يدعى جافريلو برينسيب باغتيال الأمير وزوجته، الأمر الذي أشعل فتيل الحرب العالمية الأولى حيث أعلنت النمسا الحرب على صربيا، فسارعت روسيا إلى الوقوف مع صربيا وإعلان الحرب على النمسا، فقامت ألمانيا بإعلان الحرب على روسيا في 1 أغسطس 1914، ثم تبعتها بإعلان الحرب على فرنسا بعد ثلاثة أيام، وقامت بغزو بلجيكا في اليوم الرابع، فأعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا في نفس اليوم، فأعلنت النمسا وهنغاريا الحرب على روسيا، كما دخلت الدولة العثمانية في خط الحرب وتحالفت مع ألمانيا ضد روسيا، ثم ما لبث العرب الذين كانوا يتطلعون إلى الخروج من عباءة الدولة العثمانية وتكوين كيان عربي مستقل بإعلان الثورة على الدولة العثمانية، وهكذا تلاحقت إعلانات الحرب خلال فترة وجيزة بين الدول وحلفائها حتى سميت نتيجة لذلك باسم «الحرب العظمى» ولاحقا باسم الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بهزيمة الإمبراطورية الألمانية «الرايخ الثاني» في نوفمبر 1918على الرغم من تفوقها طوال السنوات الماضية وإلحاقها خسائر فادحة بين صفوف روسيا وحلفائها وخاصة بريطانيا وفرنسا «بلغت الخسائر البشرية فقط بين الجيوش المتحاربة 10 ملايين قتيل و21 مليون جريح».
مؤتمر السلام
خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الأولى وهي مهزومة، فقامت فيها ثورة نوفمبر التي أطاحت بالإمبراطورية الثانية والحكم القيصري، وفي هذه الأثناء كانت 32 دولة تعقد ما سمي بمؤتمر السلام في 11 نوفمبر1918 حيث كان من المقرر أن يضع مجموعة من المبادئ التي تكفل السلام العالمي، غير أن الدول المنتصرة في الحرب وخاصة فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية كانت لها أجندات أخرى، ففرضت إرادتها على الحضور وبدأت بعملية توزيع الغنائم وتقسيم الدول وتقطيع أوصال ألمانيا المهزومة وفرضت عليها شروطا قاسية أدت فيما بعد إلى انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي فيها، ما شكل بذرة الحرب العالمية الثانية فيما بعد بسبب تنامي حركات التحرر الوطني التي كان الشباب الثائر محركها الأساسي، فبرز في هذه الفترة سياسي وخطيب مفوه هو أدولف هتلر الذي قدم إلى ألمانيا من النمسا بخطاب ثوري ضد اليهود بشكل خاص حيث كان يعتقد بأنهم السبب الرئيسي لكل ما يحدث في العالم من خراب وفساد، ومرد ذلك ما كان يتمتع به اليهود آنذاك من مكانة وسيطرة على مراكز المال والتجارة في الوقت الذي كان بقية الشعب الألماني يعاني الجوع والفقر والإذلال، فكان هتلر كغيره الكثير من الألمان يعتقدون أن اليهود هم سبب ما أصاب ألمانيا من ذل وهوان، فارتقى بسبب هذا الخطاب بالتحديد درجة سياسية كبيرة وتمكن من الوصول إلى رئاسة الحزب النازي، والذي كان عدد أفراده حينها 7 فقط.
معاهدة فيرساي
في 28 يونيو 1919 وقعت ألمانيا على معاهدة فيرساي مع الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى بعد مفاوضات دامت قرابة ستة أشهر، وتضمنت المعاهدة اعترافا من ألمانيا بمسؤوليتها عن الحرب وتحملها تكاليف الأضرار التي نتجت عنها وفرض على ألمانيا دفع تعويضات مالية قدرت في البداية بـ 269 مليار مارك ألماني ثم خفضت بعد ذلك إلى 132 مليارا، وتم اقتطاع ما يقارب 25 ألف ميل مربع من الأراضي الألمانية وضمها إلى پولندا والدنمارك وتشيكوسلوفاكيا، ومصادرة جميع المستعمرات الألمانية وتسريح جيشها وغيرها من الشروط المذلة والتي شكلت بلا شك نواة الحرب العالمية الثانية. فبحلول عام1933 تمكن أدولف هتلر الذي كان يرأس حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني (واختصاره الحزب النازي) من إحكام سيطرته على الجمهورية بعد توليه منصبي المستشار (أي رئيس الوزراء) ثم رئيس الجمهورية الأمر الذي اعتبر نهاية جمهورية فايمار وبداية ما كان يسميه هتلر الرايخ الثالث أي الإمبراطورية الألمانية الثالثة. نتج عن مؤتمر السلام في باريس ومعاهدة فيرساي تفكيك الإمبراطوريات الألمانية والنمساوية، وتغيير في الخريطة الجغرافية والسياسية لدول أوروبا فظهرت دول جديدة كالمجر وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا، وسقوط الدولة العثمانية وظهور تركيا بوصفها جمهورية علمانية، وتحولت النمسا وألمانيا إلى جمهوريات صغيرة، كما تم إقرار مطالب استعمارية لفرنسا وبريطانيا في دول المشرق العربي بالرغم من اعتراض الأمير فيصل بن الحسين شريف مكة الذي كان حاضرا في مؤتمر باريس بصفة مراقب، وتمت الموافقة على تأسيس «عصبة الأمم» والتي تحولت إلى «الأمم المتحدة» فيما بعد، فكانت بحق معاهدة غيرت مجرى التاريخ بل والجغرافيا أيضا، وكانت السبب الرئيسي لنهوض الحزب النازي بزعامة هتلر الذي قرر الانتقام لبلاده فكانت الحرب العالمية الثانية.
اتفاقية سايكس بيكو
كانت الحرب العالمية الأولى مفصلا تاريخيا كبيرا، قسمت العالم تقسيمات شتى بسبب التحالفات الدولية، وقبل انتهاء الحرب وفي عام 1915م بدأت فرنسا والمملكة المتحدة بعقد اجتماعات سرية لبحث اقتسام الهلال الخصيب بينهما بعد الانتهاء من الحرب وسقوط الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على هذه المنطقة، والهلال الخصيب مصطلح جغرافي أطلقه عالم الآثار الأميركي جيمس هنري برستد على حوض نهري دجلة والفرات والجزء الساحلي من بلاد الشام. استمرت الاجتماعات السرية التي كانت تتم بمباركة روسية إلى مايو 1916، وكانت المفاوضات تتم بين الديبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس على هيئة وثائق تفاهم تم تبادلها بين وزير خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك، وعندما تمكن الشيوعيون بزعامة فلاديمير لينين من القضاء على القيصر بالثورة البلشفية عام 1917، قاموا بنشر تلك الوثائق وفضح الفرنسيين والبريطانيين، ورغم ذلك تم تقسيم الهلال الخصيب بموجب اتفاق سايكس بيكو، وحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي للهلال سورية ولبنان والموصل في العراق، أما بريطانيا فقد مدت نفوذها شرقا لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة على الخليج العربي. وفيما يتعلق بفلسطين، فتم الاتفاق على أن تكون تحت إدارة دولية يتم التشاور عليها بين فرنسا وبريطانيا وروسيا، مع احتفاظ بريطانيا بحق استغلال ميناء عكا وميناء حيفا مع إعطاء فرنسا حرية استخدامهما أيضا.
لاحقا وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تم التأكيد على ما جاء في اتفاقية سايكس بيكو، وأعيد طرحها مرة أخرى في مؤتمر سان ريمو بإيطاليا عام 1920، وأعيد تقسيم سورية الكبرى لتصبح سورية ولبنان والأردن وفلسطين، ووضعت سورية تحت الانتداب الفرنسي، في حين وضعت العراق والأردن وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، فعملت بريطانيا منذ ذلك الوقت على تحقيق ما جاء في وعد بلفور الذي أعلن في نوفمبر 1917، ثم أقرت عصبة الأمم تلك الوثائق وحق الانتداب في يوليو عام 1922، ومع انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في 14 مايو 1948، أعلن في اليوم التالي قيام إسرائيل فوق أجزاء كبيرة من مناطق الانتداب وبدأ منذ ذلك الحين الصراع العربي الإسرائيلي. وبذلك تحددت ملامح أهم نتائج اتفاقية سايكس بيكو وسان ريمو، إذ تم تقسيم سورية الكبرى إلى أربعة كيانات، وضم جزء كبير منها إلى تركيا التي أصبحت جمهورية فيما بعد بزعامة كمال أتاتورك عام 1924، وزرع الكيان الصهيوني في خاصرة الوطن العربي، فكانت اتفاقية غيرت ولاتزال مجرى التاريخ.
اتفاقية كامب ديفيد
في يوم السبت الموافق 6 أكتوبر 1973 والذي يوافق عيد الغفران عند اليهود، باغت الجيش المصري والجيش السوري القوات الإسرائيلية بهجوم غير متوقع، واستطاع الجيشان تدمير خط بارليف في سيناء وخط آلون في الجولان المحتلتين من قبل القوات الإسرائيلية، رغم أن إسرائيل قد أنفقت حوالي 268 مليون دولار لإنشاء تلك الحصون، وكان قطبا القوى العظمى أميركا والاتحاد السوفييتي آنذاك يلعبان دور الداعم الرئيسي في هذه الحرب، حيث كان الاتحاد السوفييتي يدعم ويزود الجيش السوري والمصري بالسلاح، في حين كانت الولايات المتحدة تدعم وتساند القوات الإسرائيلية، في الوقت الذي كان فيه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية آنذاك يلعب دور الوسيط الديبلوماسي للتوصل إلى هدنة ومن ثم اتفاقية سلام بين الجانب العربي والجانب الإسرائيلي. وبعد تسعة أيام من بدء الحرب عقد وزراء النفط العرب اجتماعا في الكويت في 17 أكتوبر تحديدا حيث تم الاتفاق على خفض صادرات النفط إلى أميركا، فطلب الرئيس الأميركي نيكسون من الكونغرس اعتماد 2.2 مليار دولار دعما عاجلا لإسرائيل، فقامت المملكة العربية السعودية وليبيا بإعلان الحظر الكامل على صادرات النفط لأميركا الأمر الذي خلق أزمة طاقة فيها، ما جعلها تسرع في وقف الأعمال العسكرية التي توقفت في 22 أكتوبر1973، غير أن سورية لم تكن مقتنعة بما تحقق من نتائج على الساحة العسكرية، وأرادت استرداد كامل أراضيها في الجولان المحتلة، فاستمرت في حرب «الاستنزاف» منفردة بعد توقف الجيش المصري، فاستمرت الحرب بعد ذلك 82 يوما وتمكنت سورية من استرجاع القنيطرة وأجزاء كبيرة من أراضيها.
بدأت محادثات ما قبل الاتفاقية في 5 سبتمبر 1978 في المنتجع الرئاسي الأميركي «كامب ديفيد» في ولاية ميريلاند، حيث اجتمع الرئيس المصري محمد أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن بإشراف مباشر من الرئيس الأميركي جيمي كارتر وبتنسيق من وزير خارجيته هنري كيسنجر، وبعد 12 يوما من المفاوضات تم التوقيع على اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، رغم محاولات وزير الخارجية المصري آنذاك ابراهيم كامل إقناع السادات بعدم قبول المشروع الأميركي لأنه هو ذاته المشروع الإسرائيلي، ولكن السادات لم يأخذ بنصيحته ما جعل كامل يقدم استقالته هناك. أثار ذلك حفيظة الدول العربية التي اعتبرت أن مصر قد تصرفت منفردة وبعيدا عن مصالح الدول العربية، فتم تعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية عام 1979 إلى عام 1989 ونقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس. وفي 26 مارس 1979 وقعت مصر وإسرائيل «معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية» والتي كانت تضم في أهم بنودها انسحاب إسرائيل من سيناء التي احتلتها عام 1967، وكذلك اعتبار مضيق تيران وخليج العقبة ممرات مائية دولية والسماح للسفن الإسرائيلية بعبور قناة السويس، وتضمنت الاتفاقية أيضا البدء بمفاوضات لإنشاء منطقة حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وتطبيق كامل لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الذي نص على «انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلت في النزاع الأخير (أي حرب 1967)، ومن أهم نتائج هذه الاتفاقية بالإضافة إلى وقف حالة الحرب واستعادة سيناء أن حصلت إسرائيل على أول اعتراف بها من قبل دولة عربية، الأمر الذي تسبب منذ ذلك التاريخ في حالة من التشرذم العربي».