بقلم: إلياس فرحات *
شهد التصويت على قرار فرض عقوبات على إيران في مجلس الأمن الدولي ظاهرة جديدة في السياسة الدولية: البرازيل وتركيا تصوتان ضد القرار المقترح من الولايات المتحدة وأوروبا، تركيا حليفة الولايات المتحدة والعضو في حلف شمال الأطلسي فضلت ان تراعي جارتها إيران التي ترتبط معها بجملة من المصالح والتفاهمات السياسية على قضايا المنطقة على حساب تحالفها مع أميركا والتزامها بحلف الأطلسي. اما البرازيل فهي الدولة الأكبر في اميركا اللاتينية والثانية في القارة الأميركية فقد كان تصويتها ضد مشروع القرار نتيجة طبيعية لسياسة بدأت تتبلور في أميركا اللاتينية بعد سيطرة اليسار على الحكم في معظم دولها في العقدين الماضيين.
فالعلاقة بين لاتين أميركا واليانكي أي الأميركي الشمالي مثيرة للجدل، وقد مرت بمراحل معظمها متوتر وبعضها عادي لكنها لم تكن يوما قوية. عام 1962 احدث انتصار الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو هزة داخل الولايات المتحدة حين وصلت الشيوعية الى أبوابها، وأصبحت كوبا ملهمة للثوار اليساريين وداعمتهم في اميركا اللاتينية ولذلك استنفرت الولايات المتحدة أجهزتها السياسية والإعلامية والأمنية والعسكرية لمواجهة ذلك الوضع الخطير، بينما سارع الاتحاد السوفييتي الى تأييد كوبا ولما كشفت طائرات الاستطلاع الأميركية انتشار بطاريات صواريخ روسية داخل الجزيرة قادرة على الوصول الى العمق الأميركي استعدت القوات المسلحة الأميركية لغزو الجزيرة ووقعت أزمة «خليج الخنازير» وحصل استنفار نووي بين الجانبين كاد ان يؤدي الى وقوع حرب عالمية نووية لولا ان المطالب الأميركية تحققت وسحبت الصواريخ وتم نزع فتيل الأزمة.
قتل الثائر تشي غيفارا وحرب فيتنام
بعد ذلك اتخذت الولايات المتحدة سياسة هجومية ضد الشيوعية في أميركا اللاتينية وفي عام 1967 استطاعت قتل الثائر تشي غيفارا في بوليفيا وفي عام 1973 أطاحت بالرئيس اليساري المنتخب سلفادور الليندي في تشيلي وأحكمت قبضتها على أميركا اللاتينية لكنها في مكان آخر كانت غارقة في حرب فيتنام والحرب الباردة التي اوجبت توسيع انتشارها العسكري في أنحاء العالم فقامت وكالة المخابرات المركزية بعمليات سرية في آسيا وافريقيا ضمنت بنتيجتها ولاء دول معظم العالم الثالث لها، باستثناء شوكة كوبا، وبعد انسحاب القوات الأميركية من فيتنام عام 1975 والتخلص من عبء هذه الحرب، حققت الولايات المتحدة نجاحا في بسط سلطتها وهيمنتها على مختلف أنحاء العالم وبدأ ميزان القوة يميل لمصلحتها حتى توصلت الى الهيمنة وحدها على العالم بعد ان تفكك مطلع العام 1992 الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية. حتى ذلك الوقت لم يكن احد في الولايات المتحدة يفكر في الانعزال عن مشاكل العالم بل على العكس اندفعت أميركا للتدخل في جميع أنحاء العالم تحت شعار ترويج مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان والديموقراطية وعمليا بهدف الحفاظ على مصالحها، وفي عام 1991 قادت الولايات المتحدة عملية عاصفة الصحراء لتحرير الكويت التي شملت انتقال نحو 400 ألف جندي أميركي الى السعودية ومهاجمة القوات العراقية ودحرها من الكويت. على الصعيد الاقتصادي حققت الولايات المتحدة في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي نموا اقتصاديا مذهلا وفائضا كبيرا انعكس رخاء وتحسينا في مستوى المعيشة وزيادة في التقديمات الاجتماعية ولم تكن تكترث لأي منافسة محتملة من أي دولة أخرى في العالم.
وعلى اثر تفجيرات 11 سبتمبر 2001 التي ضربت الداخل الأميركي في واشنطن ونيويورك، أعلنت الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب وهاجمت افغانستان وأطاحت بنظام طالبان المتحالف مع تنظيم القاعدة وأقامت نظاما ديموقراطيا وأجرت انتخابات تشريعية ورئاسية، وبعد مضي اقل من سنتين هاجمت العراق بالاشتراك مع دول حليفة وأطاحت بنظام المقبور صدام حسين وأقامت نظام حكم يستند الى دستور ديموقراطي. وعرف القادة الأميركيون كيف يبدأون الحروب لكنهم عجزوا عن التوصل الى نهاية سعيدة لها فوقعت القوات المسلحة الأميركية فريسة لأعمال مقاومة أدت الى سقوط العديد من صفوفها بين قتيل وجريح ومعاق ودبت الفوضى في البلدين المحتلين واختل الاستقرار وانتشرت أعمال الإرهاب والثأر والقتل الجماعي وساد الفرز العرقي والطائفي وغابت كل الأهداف التي شنت الحرب من اجلها لا امن ولا حريات ولا حقوق إنسان وبدلا من ان ينهزم الإرهاب كبرت التنظيمات الإرهابية وقويت شوكتها وانتشرت في بلاد عديدة من العراق الى اليمن والمغرب العربي بعد ان توسعت في باكستان وعلى الحدود الافغانية الباكستانية وفي مناطق لم تكن موجودة فيها من قبل وضرب الإرهاب في لندن ومدريد وموسكو واسطنبول وبالي في اندونيسيا وغيرها.
بعد أكثر من تسع سنوات على هذه الحرب أصبحت المشكلة هي ماذا يحصل بعد الانسحاب الأميركي؟ هل تعود طالبان الى السلطة في افغانستان؟ وهل يبقى العراق موحدا ومستقرا بعد إتمام الانسحاب منه عام 2011؟ لاشك انه بات من المرتقب ان يتمخض الانسحاب الأميركي من العراق وافغانستان على فشل ذريع للولايات المتحدة في تحقيق أهدافها وسوف يحصد الأميركيون خسارة سياسية والاهم من ذلك الخسارة الاقتصادية الناجمة عن الكلفة العالية للحرب.
في هذه الأثناء، وفي الطرف الآخر من العالم وعلى حدود الولايات المتحدة كان اليسار يسيطر على الحكم شيئا فشيئا في العديد من بلدان اميركا اللاتينية سالكا الطرق الديموقراطية وفاز في الانتخابات في اكبر الدول البرازيل إضافة إلى فنزويلا وبوليفيا والأرجنتين وتشيلي ونيكاراغوا وغيرها، وأقامت هذه الدول علاقات مع إيران والصين وروسيا وجال الرئيس الإيراني احمدي نجاد على معظمها في تحد صارخ للولايات المتحدة كما استقبلت إيران عددا من زعماء أميركا اللاتينية وحصلت أيضا زيارات متبادلة بين هذه الدول والصين وروسيا. تضمنت هذه الزيارات توقيع اتفاقيات تجارية بين إيران والصين وروسيا وهذه الدول.
فيما كانت الولايات المتحدة تخوض الحروب في العراق وافغانستان وكانت أميركا اللاتينية تكاد تفلت من أيديها، وبنتيجة أعباء هذه الحروب وقعت الأزمة المالية العالمية وأعلنت شركات مالية ومصارف كبرى وشركات تأمين وشركات عقارية في الولايات المتحدة الإفلاس وخسر الملايين وظائفهم وارتفعت نسبة البطالة الى نحو 10% وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة منذ الانهيار الكبير عام 1936.
فاتخذت إدارة الرئيس باراك اوباما إجراءات اقتصادية ومالية لإخراج البلاد من أسوأ أزماتها، ورغم انها أوقفت الانهيار، إلا انها لم تنجح حتى الآن في إيجاد وظائف جديدة ولا في تنشيط النمو الاقتصادي او زيادة حجم التبادل التجاري مع العالم من اجل خفض العجز المالي.
ويتوقع المراقبون والخبراء الاقتصاديون ان يزيد العجز المالي لسنة 2010 على 430 مليار دولار، كما ارتفعت قروض الحكومة الفيدرالية إلى مستويات غير معهودة في تاريخ البلاد حيث من المتوقع ان تصل مع نهاية 2010 إلى 14 تريليون دولار، كما زادت الكلفة المالية للحرب في العراق على 743 مليار دولار، بينما زادت كلفة الحرب في افغانستان على 327 مليار دولار. وبعد الزيادة الأخيرة في عديد القوات الأميركية في افغانستان، من المتوقع ان تصل الكلفة الشهرية لهذه القوات الى اكثر من 7 مليارات دولار.
وأدى خفض معدلات الضرائب الذي أقره الرئيس السابق جورج بوش في بداية عهده لأصحاب الدخل العالي وغيره من الإجراءات المالية والضرائبية، الى حصول 1% فقط من الأميركيين على أكثر من ثلثي الربح في الدخل القومي. في الفترة الواقعة بين يونيو 2009 ويونيو 2010، ووصل عدد الافلاسات المعلنة لشركات او لأفراد الى 1.57 مليون، وترافق ذلك مع تراجع كبير في الخدمات العامة والتقديمات الاجتماعية وتقشف في الانفاق وتسريح موظفين وخفض ساعات العمل وتقنين في الطاقة الكهربائية وغيرها.
الطبقة الوسطى
هل أميركا في طريقها الى أن تصير دولة من العالم الثالث؟ هذا ما تراه أريانا هافينغتون، المعلقة السياسية المعروفة ومؤسسة الموقع الالكتروني «ذي هافينغتون بوست» وقد افتتحت قسما في موقعها الالكتروني بهذا العنوان لتوثيق المصاعب والتحديات التي تتعرض لها الطبقة الوسطى في اميركا. هذه التطورات والإجراءات التقشفية التي شهدتها الولايات المتحدة، عمقت السجال الدائر في البلاد حول انحسار مكانتها الاقتصادية والعلمية والتقنية، وما يعنيه ذلك من تراجع لقدرتها على السيطرة على عالم تزداد فيه التحديات للقيادة الأميركية في مختلف هذه المجالات. الأميركيون الذين أرادوا حلولا سريعة او سحرية لمشاكلهم، بمن فيهم أولئك الذين صوتوا للرئيس اوباما، بدأوا يلومونه وحزبه على هذا الوضع المتردي، غير عابئين بما يقوله الخبراء من مؤيديه من ان معالجة التحديات التاريخية التي تواجهها البلاد تتطلب أكثر من جهد يقوم به رئيس أميركي خلال اقل من سنتين، وهي بحاجة الى تغيير جذري في تفكير وأداء الطبقة السياسية بكاملها في واشنطن، واتخاذ قرارات جديدة وجريئة في النظم الاقتصادية الضرائبية والمالية والى تغيير مماثل في رؤية صناع الرأي والمؤثرين في صياغة المزاج العام في البلاد من أكاديميين ومثقفين وصحافيين، وأول هذه القرارات سوف يشمل ميزانية وزارة الدفاع الأميركية التي بلغت حدا كبيرا جعلها من الأعباء الأساسية التي تحول دون اي تحسن في الوضع المالي، حسب «معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام» الذي ينشر معلومات عن النفقات العسكرية السنوية في البلدان المختلفة، حيث بلغت الميزانية الدفاعية الأميركية في عام 2009 نحو 663 مليار دولار أي ما يعادل 4.3% من الناتج القومي الإجمالي لعام 2008.
وكانت الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة هي الصين التي بلغت ميزانيتها الدفاعية 99 مليار دولار أو ما يعادل 2% من الناتج القومي الإجمالي. وحلت بريطانيا وفرنسا في المركزين الثالث والرابع على التوالي بميزانية قدرها 69 مليار دولار، أي ما يوازي 2.5% من الناتج القومي الإجمالي لبريطانيا، و67 مليار دولار تمثل 2.3% من الناتج القومي الإجمالي لفرنسا. أما روسيا التي كانت القوة العظمى المنافسة للولايات المتحدة في العهد السوفييتي، فقد حلت في المركز السادس حيث بلغت ميزانيتها الدفاعية 61 مليار دولار أو ما يوازي 3.5 من الناتج القومي الإجمالي.
وعند مقارنتها بمثيلتها لدى باقي دول العالم، نجد أن الميزانية الدفاعية الأميركية تعادل 43% من إجمالي الإنفاق العسكري لتلك الدول مجتمعة.
تكاليف باهظة
لا تتضمن هذه الأرقام عددا كبيرا من التكاليف غير المباشرة، المرتبطة بمؤسسة الدفاع الأميركية. فعلى سبيل المثال نجد أن التكاليف الباهظة لإدارة شؤون المحاربين القدامى، خصوصا بعد ارتفاع أعداد الجنود الأميركيين الجرحى والمعاقين الذين يتطلبون عناية مدى الحياة، تلحظ في ميزانية منفصلة عن ميزانية وزارة الدفاع. كما ان الإنفاق الدفاعي المتعلق بوزارة الطاقة، والأقمار الاصطناعية التابعة لوكالة «ناسا» الفضائية، لا يحتسب أيضا من ضمن ميزانية وزارة الدفاع.
ولا تدخل تكاليف الحروب الجارية في العراق وافغانستان كذلك في هذه الميزانية. انها تتضمن النفقات الإدارية الروتينية وتطوير الأسلحة والنظم القتالية في مختلف وحدات البر والبحر والجو والفضاء والانتشار العسكري داخل الولايات المتحدة وخارجها الذي توسع على نحو غير مسبوق. اصدر مركز «جلوبال ريسيرش» الكندي لأبحاث العولمة تقريرا في يوليو 2010 عن انتشار القواعد العسكرية الأميركية في العالم من برية وبحرية وجوية وقواعد تجسس ومخابرات قدرها بنحو سبعمائة قاعدة تكلف الولايات المتحدة سنويا مئات المليارات من الدولارات. وهي تستخدم لأغراض التدريب والعمليات وتخزين الأسلحة والمعدات العسكرية التي تستخدمها القوات المسلحة في مهامها. بالإضافة إلى القواعد العسكرية المنتشرة داخل أميركا نفسها والتي تصل إلى ستة آلاف قاعدة حسب تقديرات المركز في فبراير الماضي.
وبعد هجمات سبتمبر 2001 ومع زيادة شعور أميركا بخطر الإرهاب، ارتفع عدد القوات الأميركية المنتشرة خارج الولايات المتحدة من 65.255 ألف جندي الى 325 ألفا ينتشرون في أميركا الشمالية وأميركا اللاتينية وأوروبا الغربية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى واندونيسيا والفيليبين واليابان. ويحتاج تخفيض هذه النفقات إلى قرارات تاريخية تسدل الستار عن مرحلة من السياسة الأميركية ينبغي إنهاؤها والاتجاه نحو سياسة جديدة. بدأت بعض الأوساط السياسية تروج للعودة الى مبدأ مونرو الذي قايض منع تدخل الدول الأوروبية في المصالح الأميركية في أميركا اللاتينية بعدم تدخلها في الخلافات بين الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر. في هذا المجال قالت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون: «حققت الصين وإيران نجاحات مزعجة في أميركا الوسطى والجنوبية»، وأضافت «ان إقامتهما علاقات سياسية واقتصادية مع زعماء هذه الدول لا يخدم أبدا مصالح الولايات المتحدة». وكتب الصحافي ادوين غونزاليس في مجلة «فورين بوليسي اكزامينر»: «حان الوقت للرئيس اوباما ان يعود الى مبدأ مونرو لضمان نفوذ الولايات المتحدة على نصف الكرة الغربي» وأضاف انه «لا يجوز السماح لروسيا والصين وإيران ان تأخذ دول أميركا اللاتينية من الولايات المتحدة». ما هو مبدأ مونرو؟ في ديسمبر عام 1812 وجه الرئيس الأميركي جيمس مونرو رسالته السنوية الى الكونغرس أوضح فيها سياسته تجاه أوروبا وأميركا اللاتينية وأطلق عليها منذ ذلك الوقت مبدأ مونرو، وأهم ما تضمنته هذه الرسالة: أولا: ان قارتي أميركا، نظرا لما تتمتعان به من حرية واستقلال وتحافظان عليه، ليستا مفتوحتين لأي استعمار من أي دولة أوروبية في المستقبل. ثانيا: أن الولايات المتحدة لم تتدخل في السابق في الشؤون الداخلية لأوروبا، وليس مما يتفق مع سياستها أن تفعل ذلك في المستقبل. ثالثا: أن النظام السياسي للدول الأوروبية المتحالفة يختلف تماما مع النظام السياسي في الأميركيتين، وعليه نعتبر أن أي محاولة من تلك الدول لفرض نظامها على أي جزء في هذا النصف من الكرة الأرضية خطر على أمن وسلامة الأميركتين.
لم يحظ هذا الإعلان باهتمام في ذلك الوقت واعتبرت الدول الأوروبية أنه لا لزوم له، أما أميركا اللاتينية فقد ارتاحت له، ولكن حكومات الولايات المتحدة اتخذت منه طوال القرن التاسع عشر سندا لمنع أي تدخل من الدول الأوروبية في شؤون أميركا الجنوبية، كما اتخذته حجة لتبرير سياستها الانعزالية في أحيان كثيرة. وأعطى الرئيس الأميركي تيودور روزفلت (1901 ـ 1909) حياة ومعنى جديدين لمبدأ مونرو، عندما أشار إلى أن ضعف الدول الأميركية الصغيرة وممارساتها الخاطئة تغري الدول الأوروبية بالتدخل، ورأى ان الدول الأوروبية تجد تبريرا لحماية أرواح مواطنيها المقيمين في تلك الدول وممتلكاتهم وحقوقهم، وأكد أن الدفاع عن مبدأ مونرو يتطلب من الولايات المتحدة منع هذا التدخل المبرر، وذلك عن طريق التدخل بنفسها. وبناء على ذلك أرسلت الولايات المتحدة جيوشها إلى الدومينيكان في عام 1905، ونيكاراغوا عام 1912 وهاييتي عام 1915.
وبعد الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) عملت الولايات المتحدة على تحسين علاقتها مع دول أميركا اللاتينية. وأعلن الرئيس فرانكلين روزفلت (1933 ـ 1945) في مستهل فترة رئاسته سياسة حسن الجوار مع دول أميركا اللاتينية. وقال: «يجب على جميع الأميركيين أن يساهموا في دعم مبدأ مونرو، وبالتالي أصبح الدفاع عن نصف الكرة الغربي واجبا جماعيا».وفي عام 1948 في بوغوتا كولومبيا أعلن عن تأسيس منظمة الدول الأميركية وعقدت عدة مؤتمرات لبحث الشؤون الداخلية في القارة الأميركية. ولم توقف الولايات المتحدة التدخل الاستخباري في دول اميركا اللاتينية من تنظيم الانقلابات الى حماية حلفائها الى دعم ثورة الكونترا في نيكاراغوا، ومنذ أزمة كوبا عام 1962 تدخلت عسكريا مرتين الأولى في جزيرة غرانادا عام 1983 على اثر معلومات عن حدوث انقلاب يساري على السلطة احتلت الجزيرة من دون ان تواجه أي مقاومة، وجرت هذه العملية في خضم الحرب الباردة وحرصت الولايات المتحدة على عدم تكرار نموذج كوبا مهما كان صغيرا، اما الثانية فكانت من خارج إطار الحرب الباردة وهي غزو باناما واحتلالها واعتقال رئيسها الجنرال نورييغا واقتياده الى السجن بتهمة تورطه في عمليات تهريب المخدرات الى الولايات المتحدة.
اذا كانت الولايات المتحدة قد تمكنت من فرض هيمنتها على أميركا اللاتينية بتطبيق مبدأ مونرو وخصوصا منع التدخل الأوروبي في شؤونها فإن رؤساء أميركا خلال القرن التاسع عشر استخدموا هذا المبدأ لتبرير سياستهم الانعزالية عن مشاكل العالم، وكانت أوروبا بعد نامليار مسرحا لخلافات ونزاعات وحروب بين دولها امتدت الى المستعمرات والتنافس على وراثة الرجل المريض أي الدولة العثمانية كما شهدت تصاعد النزعة القومية والوحدة الألمانية والوحدة الايطالية. دفع ذلك رؤساء أميركا الى الانعزال والاهتمام بشؤون القارة والسعي لتحقيق تقدم صناعي وتكنولوجي استمرت هذه السياسة حتى نشوب الحرب العالمية الأولى فاكتفت الولايات المتحدة في البداية بمراقبة سير العمليات الحربية، وفي عام 1916 نشبت معركة غوتلاند البحرية بين ألمانيا وبريطانيا في بحر الشمال وتمكنت ألمانيا من تدمير عدد من سفن الاسطول البريطاني لكنها انسحبت من دون ان تحسم المعركة وشنت حربا بالغواصات ضد السفن التجارية المتجهة الى بريطانيا من اجل حصارها وتجويعها وإرغامها على الاستسلام.
استفز ذلك التطور في الحرب الولايات المتحدة وخشيت من سيطرة ألمانيا وظهور واقع جديد في اوروبا وعززت هذه المخاوف الإغراءات التي قدمتها ألمانيا للمكسيك لتدخل الحرب ضد الولايات المتحدة مقابل منحها أربع ولايات، عندها قررت دخول الحرب وعندما وصلت القوات الأميركية الى فرنسا عام 1917 حدث تطور كبير في مجرى هذه الحرب حين ساعدت جيوش الحلفاء على شن هجوم مضاد ناجح انسحبت نتيجته القوات الألمانية وتسبب ذلك تراجع الدعم الألماني للامبراطورية العثمانية وسقوطها. منذ ذلك الوقت وضعت الولايات المتحدة مبدأ الانعزال جانبا ودخلت نادي الدول الكبرى من دون ان تهمل تطبيق مبدأ مونرو في احتكارها للهيمنة على أميركا اللاتينية.
الحرب الباردة
توسع تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الدولية وبلغ ذروته في الحرب العالمية الثانية عندما دفعتها الضربة اليابانية المفاجئة في بيرل هاربور الى دخول الحرب على جبهة المحيط الهادئ وأوروبا وتوسع الانتشار العسكري الأميركي نتيجة هذه الحرب ليشمل أوروبا وخصوصا ألمانيا وآسيا خاصة كوريا واليابان والفليبين. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت على الفور الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي انتهت هذه الحرب بسقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه وباتت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم.
مع ذلك برزت الصين كقوة صاعدة وكتلة اقتصادية كبيرة ودخلت الى أميركا اللاتينية وتبعتها روسيا ثم إيران التي لم تكتف بالعلاقات التجارية بل توسعت وأقامت روابط سياسية مع دول أميركا اللاتينية بلغت ذروتها في التصويت التاريخي للبرازيل في مجلس الأمن ضد الولايات المتحدة ولصالح إيران على قرار فرض عقوبات على إيران. تستخدم إيران في تقربها الى أميركا اللاتينية القوة الناعمة التي قد تتصلب يوما ما وتشكل خطرا على الأمن القومي الأميركي اذا استمرت الأمور على هذا النحو، بخسارة أميركية في العراق وافغانستان وكلفة عالية للحروب تنهك الاقتصاد، وتمدد إيراني ـ صيني ـ روسي في أميركا اللاتينية، عندها سوف تفرض معطيات الأمن القومي الأميركي المستجدة تحويل الأولوية الى الجنوب وتنفيذ سياسة جديدة وهي «ما وراء البحار» وتقوم على احتواء الأزمات واللجوء إلى القوة الناعمة واستبعاد التدخلات العسكرية وبذلك تعود الولايات المتحدة الى نسخة جديدة ومعدلة لمبدأ مونرو.
اللجوء إلى القوة الناعمة
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والتي انتهت بسقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه وباتت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم. ومع ذلك برزت الصين كقوة صاعدة وكتلة اقتصادية كبيرة وتبعتها روسيا ثم ايران التي لم تكتف بالعلاقات التجارية بل توسعت وأقامت روابط سياسية مع دول أميركا اللاتينية بلغت ذروتها في التصويت التاريخي للبرازيل في مجلس الأمن ضد الولايات المتحدة ولصالح إيران على قرار فرض عقوبات على إيران. واذا استمرت الأمور على هذا النحو، بالإضافة الى الخسارة الأميركية في العراق وافغانستان وكلفة عالية للحروب تنهك الاقتصاد، عندها سوف تفرض معطيات الأمن القومي الأميركي المستجدة تحويل الأولوية إلى الجنوب وتنفيذ سياسة جديدة ما وراء البحار تقوم على احتواء الأزمات واللجوء إلى القوة الناعمة واستبعاد التدخلات العسكرية.
* عميد ركن متقاعد في الجيش اللبناني