- تجربة الحركة الشعبية مع مصر والسودان لا تبشر بالخير على الصعيد المائي بعد تعطيلها مشروع قناة جونقولة
- إثيوبيا تنتظر مرحلة جديدة من الأزمات بعد إعلان دولة جنوب السودان
- أوغندا مرتاحة لولادة الدولة الجديدة لأملها
في أن تتوقف عن دعم المعارضة المسلحة والتي يشكل «جيش الرب» غالبيتها
بقلم: إلياس فرحات عميد ركن متقاعد في الجيش اللبناني
كان من المقدر ان يكون انفصال جنوب السودان الحدث العربي والافريقي الأبرز مطلع عام 2011 وان يتصدر الاهتمامات العربية وان تنشغل الدول العربية ونخبها السياسية في استشراف الأخطار الناجمة عن التقسيم، فإذا بالانتفاضات الشعبية والاحتجاجات التي فجرها إحراق الشاب التونسي بوعزيزي نفسه تؤدي الى تغيير النظام في كل من تونس ومصر وحدوث اضطرابات دموية في ليبيا وأخرى في اليمن والبحرين يرجح المراقبون انها سوف تفضي الى تغيير ما، إضافة الى هواجس انتابت دولا أخرى. كل ذلك أدى الى حجب المشهد السوداني عن الأنظار السياسية، الذي وعلى الرغم من خطورته بات منسيا امام هول ما يجري من تغييرات لم يكن احد يتوقعها او يحسب لها حسابا.
نتيجة الاستفتاء: الأكثرية تؤيد الانفصال
في يناير 2011 انتهت مهلة السنوات الخمس المحددة في اتفاق السلام بين حكومة السودان والحركة الشعبية في جنوب السودان لإجراء الاستفتاء على تقرير المصير لسكان الجنوب. وجرى الاستفتاء بين 9 و15 يناير 2011 وفي 15 فبراير 2011 أعلنت «مفوضية استفتاء جنوب السودان» النتائج الرسمية وبينت ان 97.58% من الناخبين المسجلين البالغ عددهم 3، 851، 994 قد أدلوا بأصواتهم لصالح الانفصال عن الشمال وبات من المؤكد ان دولة جديدة سوف تنشأ فور انتهاء المرحلة الانتقالية في 9 يوليو 2011 وسيفقد السودان ثلث مساحته الجغرافية، ويفقد ما يعادل 9 ملايين نسمة من عدد سكانه الذي يبلغ 39.15 مليون نسمة، كما انه سيفقد من 60 إلى 80% من ثروته النفطية التي أصبحت تمثل أكثر من 70% من الدخل القومي. هكذا وبعد اخذ ورد، ومن دون ممانعة شمالية قوية، ووسط تجاهل عربي، واعتراف مصري بالأمر الواقع الجديد يشبه اعتراف مصر بانفصال السودان عنها واستقلاله عام 1956، حصل المكروه وانقسم السودان نفسه هذه المرة ونشأ واقع جديد طالما نسبه كثير من المحللين السياسيين منذ زمن طويل الى نظرية المؤامرة. وقد كرست زيارة وزير الخارجية المصري ومدير المخابرات العامة المصرية الى عاصمة اقليم الجنوب جوبا وافتتاح خط طيران بين القاهرة وجوبا اعترافا مصريا مبكرا بالوضع الجديد.
تأييد شمالي ودولي للانفصال
بكل هدوء أعرب الرئيس السوداني عمر البشير عن موافقته على نتائج الاستفتاء فور إعلانها وقال في خطاب أذاعه التلفزيون الرسمي السوداني البشير في 7 فبراير: «لقد تلقينا اليوم هذه النتائج (الاستفتاء)، ونحن نقبل بها، ونشيد بها، لأنها تعبر عن إرادة ورغبة سكان الجنوب».لا شك ان هذا التصريح اسهم في تبديد المخاوف من انفجار النزاع من جديد بين شمال السودان وجنوبه على ثروة النفط المهمة في المناطق الحدودية بين الشمال والجنوب. وفيما يبدو ان هناك ردا اهدأ واعرابا عن عرفان بالجميل، وعد رئيس حكومة جنوب السودان سيلفا كير بمساعدة الخرطوم، والعمل ما في وسعه لإلغاء ديونها الخارجية، وتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. وأضاف القائد الجنوبي «يستحق البشير وحزب المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) مكافأة على هذا الموقف»، يذكر أن واشنطن رمت بثقلها لتقسيم السودان وأوفدت السيناتور جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ من اجل ضمان نجاح الاستفتاء والتوصل الى التقسيم رضائيا وبالوسائل السلمية وهي ألمحت سابقا إلى استعدادها لشطب السودان من قائمة البلدان الداعمة والراعية للإرهاب، وإلى تخفيف العقوبات الاقتصادية عليها إذا ما سمحت الخرطوم بإجراء الاستفتاء في أجواء مريحة.
على الصعيد الدولي تسارعت ردود الفعل المؤيدة للانفصال حيث أعلن الرئيس الأميركي اوباما، أن بلاده سوف تعترف بجنوب السودان «المستقل وصاحب السيادة» بحلول شهر يوليو القادم. وقال في7 فبراير: «اهنأ باسمي وباسم الشعب الأميركي سكان جنوب السودان بالنجاح الذي توج الاستفتاء، والذي اختارت فيه الغالبية العظمى منهم الاستقلال والانفصال». الموقف نفسه رددته كاترين أشتون، مفوضة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، التي قالت: «إنها لحظة تاريخية بالنسبة للسودان. ونحن نحترم نتيجة الاستفتاء التي تعكس بحق إرادة سكان الجنوب» وأضافت «سوف يعمل الاتحاد الأوروبي من أجل إقامة شراكة واسعة وطويلة المدى مع الدولة الناشئة في الجنوب» أما الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، فقد «هنأ سكان جنوب السودان لمشاركتهم الواسعة في هذا الاقتراع التاريخي»، كما أشاد بمن أسماهم «شركاء اتفاق السلام الشامل الموقع في عام 2005 لما أبدته تلك الأطراف من مسؤولية بقبولها دون تردد للنتائج التي أفرزها الاستفتاء». يبدو الموقف الدولي وكأن حلا شاملا لمشكلة مستعصية قد تم الوصول اليه فيما تشير الوقائع الى ان العديد من المشاكل الجدية سوف تنشأ عن قيام هذه الدولة.
إن انفصال الجنوب سيجعل الحدود الجنوبية للسودان تنحصر مع الدولة الجديدة فقط بعدما كانت مع أربع دول أخرى (كينيا ـ أوغندا ـ الكونغو الديموقراطية ـ أفريقيا الوسطى)، وهذا لا يعني أن الحدود الجديدة ستكون أكثر استقرارا من سابقاتها، إذ ان الحدود بين شمال السودان وجنوبه هي بالغة التعقيد ولم تحسم بعد وهي تنتظر التوافق عليها خلال الفترة الانتقالية حتى يوليو 2011.
يتوقف استقرار هذه الحدود على مدى التوافق ببن الشمال والجنوب على تطبيق قانون المشورة الشعبية لمناطق جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، وعلى الاستفتاء على أبيي المدينة الغنية بمنابع النفط. وبينما بدأت ولاية النيل الأزرق بإجراء المشورة الشعبية في 14 يناير 2011 فمازالت ولاية جنوب كردفان تنتظر توافق شريكي اتفاق السلام على الاحصاء السكاني للمنطقة الذي ستقوم على أساسه انتخابات المجلس التشريعي للولاية، الذي سيشرف على تمثيل الولاية في التفاوض مع الحكومة المركزية في الخرطوم، بشأن قسمة السلطة والثروة على النحو الذي يلبي طموحات سكان الولاية. اما في ابيي فان الوضع مازال معقدا رغم صدور حكم من محكمة العدل الدولية في لاهاي في يوليو 2009 حول ترسيم الحدود. اختلطت قضية ترسيم الحدود بين قبيلتي المسيرية ودينكا أنقوك من جهة وقضية ترسيم حدود حقول النفط بين السلطتين المركزيتين في الخرطوم وجوبا، كما اصبح توزيع حصص الشمال والجنوب من عائدات النفط، وتأمين إنتاجه وتصديره بسلام، مشكلة كبيرة تتداخل فيها عوامل خارجية عديدة ليس من السهل أبدا التوصل الى تسوية بشأنها.
اما موضوع التعايش السلمي بين السكان المحليين في ابييه وخصوصا الاتفاق على حدود الأراضي الزراعية وتحديد مسارات الرعاة وتوزيع المراعي فان السكان انفسهم هم الاقدر، على معالجة خلافاتهم بآليات التحكيم الشعبي المحلية لذلك يرجح إبقاء الوضع على حاله وألا يتورط الطرفان في البحث عن تسوية هذه المسألة اذ تكفيهم المشاكل القائمة اصلا.
استباق الاستفتاء
جنوبيا، بدأت الحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكمة في الجنوب استباق الاستفتاء بمحاولة ترتيب أوضاع البيت الجنوبي ودعت جميع الأطراف الجنوبية إضافة إلى ممثلين جنوبيين للأحزاب القومية السودانية الى ملتقى الحوار الجنوبي في 13 ـ 17 أكتوبر 2010 في مدينة جوبا وسبق ذلك إعلان العفو العام من قبل رئيس حكومة الجنوب النائب الأول للرئيس السوداني سيلفاكير ميارديت، مما مهد الطريق إلى مصالحات مع منشقين عن الجيش الشعبي لتحرير السودان (جيش الجنوب) بعد ذلك عقد ملتقى خاص لمسلمي الجنوب في ديسمبر 2010، من اجل إدارة التحول نحو الوضع الجديد.
تشكل الجنسية المزدوجة مشكلة في ظل التداخل الاجتماعي لبعض الأسر الشمالية والجنوبية نتيجة التصاهر، خصوصا أن بعض الجنوبيين تربطهم مصالح طويلة الأجل بشمال السودان أكثر من جنوبه، لكنهم في الوقت نفسه لا يمكنهم رفض جنسية الدولة الجديدة في ظروف التجاذب السياسي والقبلي الشديد الذي رافق ولادة هذه الدولة، والذي يعتبره الجنوبيون استقلالا عن الشمال، وبالتالي سينظر إلى كل جنوبي يفضل البقاء في الشمال على أنه متواطئ مع الدولة الاستعمارية القديمة. كما يواجه الشمال مشكلة وضعية من يختار البقاء فيه من الجنوبيين، خصوصا أولئك الذين انطبقت عليهم شروط الاستفتاء لتقرير المصير وشاركوا فيه وأيدوه.
شماليا تنذر تطورات الوضع في دارفور بالتوتر بين الشمال والجنوب، فقد بدأت الحركات المسلحة المناوئة لسلطة الخرطوم في دارفور في الاحتماء بالسلطة الجنوبية في جوبا وطلب دعمها لتحقيق استقلال مماثل لاستقلال الجنوب. ومع ادراك سلطة الجنوب لمخاطر استضافتها للحركات المقاتلة في دارفور على العلاقات مع الشمال الذي لم يجف حبر اتفاق السلام بينهما بعد، وفيما تعتبر هذه السلطة انها ناضلت من أجل قضيتها سنوات طويلة ستجد نفسها في موقف أخلاقي صعب أمام شعبها الذي طالما اكدت له عدالة قضية شعب دارفور وطلبت منه دعم نضاله ضد حكومة الشمال. لقد استفاد الجنوب من التعاطف الشعبي العالمي خلف قضيته من خلال حملة دعائية اظهرت الظلم الشمالي الفادح. في المقابل كسبت قضية دارفور تعاطف الرأي العام العالمي اكثر من قضية الجنوب نفسها خصوصا بعد الحديث عن اعمال تطهير عرقي، وفي هذه الحالة وجدت سلطة الجنوب التي نالت حقوقها بسبب التعاطف الدولي الرافض للظلم محشورة بين أن تدعم شعب دارفور الذي يعيش الظلم نفسه الذي كانت تشكو منه وتثير بذلك نقمة الشمال الذي سوف يعتبره خرقا لاتفاق السلام وربما لجأ الى تدابير انتقامية، وبين ان تتخلى عن ذلك الشعب وتخلق لنفسها مشكلة اخلاقية مع شعبها في الجنوب الذي لن يستسيغ هذا الموقف مما يفتح الباب واسعا أمام احتمالات تفجر الصراع الشمالي الجنوبي مرة أخرى.
لكن الجنوب بحد ذاته يعج بالتناقضات والنزاعات فلم يكد الاستفتاء ينتهي وقبل إعلان النتائج اعلن الجيش السوداني الجنوبي في 11 فبراير مقتل 105 أشخاص، بينهم 39 مدنيا، في المعارك التي دارت خلال الاسبوع الماضي بين قواته ومتمردين في منطقة جونقلي في جنوب السودان وقتل 20 منهم في مدينة فانغاك، في حين قتل 30 من رجال الجنرال جورج اتور، كما ادت الاشتباكات الى فرار اكثر من عشرين الف مواطن من منازلهم، وفي 5 مارس قتل 22 شخصا وجرح 40 في اشتباكات بين عشيرتي ايوال وداتشويك التابعتين لقبيلة دينكا في جونقولة اثر نزاع على ملكية قطعة ارض. وفي 6 مارس تجددت الاشتباكات في ولايتي اعالي النيل وجونقلي بين الجيش الشعبي وقوات الجنرال جورج اتور أدت الى مقتل 92 شخصا وإصابة المئات بجراح وبذلك تعرض اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقع في الخامس من يناير2011 بين الجيش الشعبي لتحرير السودان والمتمردين الى خرق كبير.
في الأول من مارس 2011 أفادت انباء عن حشود شمالية قرب مدينة ابييه وعلى الاثر صرح سيلفاكير زعيم الجنوبيين امام برلمان الجنوب في جوبا ان القوات المسلحة الشمالية ارسلت تعزيزات الى ابيي وقال: «ان القوات المسلحة الشمالية أصبحت أكثر عددا في منطقة ابيي خصوصا على طول الطرق المؤدية إلى الشمال، ونحن ملتزمون بالسلام ولكن يجب علينا أن نحتفظ بحق الدفاع عن شعب جنوب السودان وممتلكاته» وأضاف «ادعو مجددا الرئيس عمر البشير إلى سحب الكتيبة 31 من ابييه لإفساح المجال امام التشكيل العسكري المشترك بين الشمال والجنوب للانتشار في المنطقة وإعادة السلام اليها». إزاء هذه التطورات اوفدت الولايات المتحدة السفير وليم ريتشاردسون لحل الأزمة القائمة حول منطقة ابيي النفطية وقال وليامسون بعيد وصوله إلى الخرطوم:» انه سيستفيد من اللقاءات التي سيعقدها في السودان للتطرق إلى مسألة أبيي الواقعة على خط التماس بين جنوب وشمال السودان» وأعلن أنه ينوي الالتقاء بسيلفاكير زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، كما سيزور منطقة دارفور في غرب البلاد التي تشهد حربا أهلية منذ العام 2000 إلا ان الحركة الشعبية أعلنت أنها ستقاطع المحادثات الأميركية ـ السودانية بسبب الدمار الذي اصاب ابيي وقال ياسر عرمان نائب الأمين العام للحركة «لن نشارك مجددا في هذا الحوار الا في حال كان هناك حل لمسالة ابيي» وحثت الحركة الشعبية قوى حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة على السيطرة على ابيي، كما دعت القوات المسلحة السودانية الى مغادرتها.
مشاكل داخلية وخارجية
مشاكل في داخل الجنوب مع القبائل ومشاكل في الشمال مع دارفور ومشاكل بين الجنوب والشمال لا يبدو ان الانفصال وضع حدا لها. وليس بعيدا سوف نصل الى يوليو 2011 وتبدأ عندها المشكلة الكبرى حول النفط ومسرحها ابيي. لا شك ان الفريقين كليهما يضمران نوايا للسيطرة على حقول النفط ويستعمل كل منهما قوى في مناطق الطرف الآخر وسيلة ضغط عليه.الشمال يضغط بجورج اتور وبعض القبائل والجنوب يضغط بدارفور. لكن جنوب السودان ككيان سياسي مهيأ لادوار أخرى على المسرح الاقليمي انطلاقا من وضعه الجغرافي.
في اثيوبيا تنظر هذه الدولة بعين الحذر الى الدولة الجديدة في جنوب السودان، ولم تخف قلقها من المخاطر التي يشكلها تقرير مصير جنوب السودان على وحدتها الوطنية، فهي دولة متعددة القوميات تتألف من الأمهرة والأرومو والتيجراي والعفر والصوماليين وهي على نزاع مع الصومال حول منطقة الأوغادين ذات الأغلبية الصومالية. غير أن اكثر ما يقلقها هو العلاقة الجيدة التي تربط بين الحركة الشعبية لتحرير السودان ودولة اريتريا التي كانت المقر الأخير لقيادة الحركة الشعبية لسنوات عديدة قبل توقيع اتفاق السلام السوداني (اتفاقية نيفاشا) في العام 2005. تتخوف اثيوبيا في هذا السياق من أن يمتد النفوذ الإريتري ليحيط بها من الجنوب والشرق، وهي لم تنس بعد النزاع مع جارتها إريتريا على الصومال. لاتزال عقدة اريتريا (يبلغ عدد سكانها 6 ملايين) تلازم اثيوبيا (يبلغ عدد سكانها 88 مليون) منذ الاعتراف العالمي باستقلالها عنها واستحواذها على ساحل على البحر الأحمر طوله 1150 كلم فيما لم يعد لاثيوبيا أي منفذ على الساحل البحري.
فيما ينتظر ان تدخل اثيوبيا مرحلة جديدة من الأزمات بعد إعلان دولة جنوب السودان، تبدو اوغندا مرتاحة لولادة الدولة الجديدة وهي تأمل ان تتوقف سلطة جنوب السودان عن دعم المعارضة الاوغندية المسلحة والتي يشكل «جيش الرب» غالبيتها، لم يكن سرا ان الحكومة السودانية كانت الداعم الأساسي لـ «جيش الرب» وان الحركة الشعبية لتحرير السودان التي سوف تتولى الحكم في الجنوب لن تستمر بدعمه والأرجح ان تقف موقفا عدائيا منه وهذا ما يؤدي الى ضعف «جيش الرب».
أما كينيا فتتهيأ لكسب وحصد ما زرعته في علاقتها الطويلة الأمد بالحركة الشعبية لتحرير السودان ودعمها قضية شعب جنوب السودان، خاصة أنها تمثل المنفذ البحري الأقرب للدولة الجديدة، وكينيا تأمل أن يمثل ميناء ممباسا على المحيط الهندي المعبر الأساسي للبضائع الواردة للجنوب، لاسيما أن الدولة الوليدة ستحتاج إلى استيراد كل شيء تقريبا، وكينيا تأمل أن تتدفق المساعدات المالية والخدمات عن طريقها كي تشكل تجارة ترانزيت فاعلة بينها وبين الدولة الجديدة.
اما مصر فسوف تتأثر حتما بالانفصال، اذ تخشى القاهرة من أن يصبح الجنوب حليفا لإسرائيل، مما يعني تهديد الأمن القومي المصري، واحياء مخططات تقسيم المنطقة الى دويلات على أسس طائفية وعرقية وقد اكد الخبير المصري في الشؤون الإسرائيلية محمد ابو غدير ان خطر التقسيم الذي طال العراق والسودان والمطلوب انجازه في اليمن يمكن ان يطال مصر إلا اذا تحركت بقوة لإفشال هذا المخطط الخطير. اما الخطر ـ المشكلة فهو الأمن المائي لمصر والسودان وما يمكن ان تسببه الدولة الجديدة من اخطار على تدفق مياه النيل الى البلدين.
مشكلة مياه النيل
بدأت أزمة مياه النيل تتفاعل مجددا مع إعلان 4 دول من منطقة منابع النيل هي اثيوبيا ورواندا واوغندا وتنزانيا توقيع اتفاق جديد في ابريل 2010 رغم الاعتراضات المصرية والسودانية وتمسك كلا البلدين باتفاقية 1929التي تعطي مصر حق النقض لأي مشروع اتفاق حول النيل، وفي وقت لاحق وقعت كينيا على الاتفاق ثم في الأول من مارس 2011 وقعت بوروندي على الاتفاق وحصل بذلك على الأغلبية اللازمة من دول الحوض حتى يمكن المباشرة بتنفيذه (اول تحد خارجي للسلطة المصرية الجديدة). ويحمل هذا الاتفاق نوايا سيئة ضد مصر التي رفضته بشكل قاطع، ومع ولادة دولة جنوب السودان حلت الدولة الجديدة مكان السودان لتزيد من القلق المائي لدى مصر خصوصا مع اتضاح علاقتها القوية بإسرائيل.
وركزت إسرائيل على نهر النيل في السنوات الأخيرة لضمان الإمساك بأقوى ورقة للضغط على مصر، وفي هذا السياق جاءت جولة وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان على اثيوبيا وكينيا واوغندا وهي تعد من أهم بلدان منابع نهر النيل، وأكثرها رفضا لاتفاقات المياه المعقودة مع دولتي المصب: السودان ومصر.
وقد اتضح فعلا أن ليبرمان، وهو أول مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى يزور أفريقيا منذ نحو عشرين عاما توصل إلى عقد اتفاق مع حكومة كينيا على مشروعات ذات صلة بإدارة المياه، ومن المؤكد أنه حقق شيئا من ذلك القبيل مع إثيوبيا وأوغندا، وهنا يبدو دور السلطة الجديدة في جنوب السودان حرجا لجهة الانضمام الى دول الحوض واستمرار التضييق المائي على مصر او التعاون مع مصر والسودان وتحقيق المصالح المشتركة بينهما وخصوصا في مسألة مياه نهر النيل.
وفي الجنوب تبين ان تجربة الحركة الشعبية مع مصر والسودان لا تبشر بالخير على الصعيد المائي فهي عطلت مشروع قناة جونقولة في المنطقة الواقعة تحت نفوذها، حيث كان من المقرر ان تنتهي المرحلة الأولى من هذا المشروع عام 2000 وتؤمن من 2 الى 3 مليارات متر مكعب من المياه سنويا لمصر والسودان عن طريق تجفيف 200 ألف فدان من المستنقعات واستصلاحها للزراعة، لكن قوات الحركة الشعبية بدعم إسرائيلي هاجمت المهندسين المصريين وأحرقت حفار المشروع بعدما تم تنفيذ 265 كلم من القناة التي كان من المقرر ان يبلغ طولها 365 كلم، ولم تفلح الاتصالات السياسية الا في تهدئة الأمور ولم يجر أي اتفاق حول استئناف العمل بالقناة خصوصا ان فائدتها تعود لجنوب السودان وشماله ومصر.
ولم تكن افريقيا الممزقة بالنزاعات العرقية والدينية والقبلية بحاجة الى المزيد من التمزيق، ففي السودان حصل التقسيم بهدوء لكنه حمل معه بذور مشاكل لن تنتظر طويلا حتى تنفجر. وهناك دول عديدة دخلت دائرة الخطر بتعقيدات يصعب حلها. واثيوبيا مهددة بالتمزق وهاجس الخطر الاريتري ماثل امامها، والسودان الجديد يفقد ثروته وصورته الوطنية الجامعة. ومصر مهددة مائيا لأول مرة في التاريخ ودول حوض النيل كلها تعاني من اضطرابات داخلية. كما لم تجف دماء المجازر في راوندا و«جيش الرب» يقض مضاجع اوغندا والكونغو الديموقراطية تكاد تفقد سيطرتها المركزية على قسم كبير من اراضيها والخلافات القبلية أنتجت صراعا دمويا على السلطة ليس آخره المحاولة الانقلابية الدامية التي جرت مؤخرا في فبراير 2011. وكينيا تعاني مشاكل دينية وعرقية ولا تحتمل اية هزة حتى تنفجر كما حصل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وأخيرا هناك سؤال يقفز للأذهان: لماذا كل هذه الإشادات الأوروبية والأميركية بتقسيم السودان؟!