منّ الله سبحانه وتعالى على نبيه موسى بن عمران بمنن عظيمة ونعم جليلة. فنجاه، وهو وليد، من القتل، ثم نجاه من الغم، وصنعه على عينه، واصطفاه لنفسه، ورباه في قلب بيت عدوه، واختصه وأخاه هارون بالرسالة، ثم اختصه هو نفسه بكلامه وبالمعجزات الحسية الكبرى، ثم اختصه بمعاقبة عدوه أشد العقاب في الدنيا والآخرة، وشق له البحر لينجو هو ومن آمنوا معه وأغرق فيه عدوه.
وقص الله عز وجل قصة موسى مرات متكررة في كتابه الكريم. وفي بعض الأحوال وردت القصة مفصلة. وفي أحوال أخرى وردت مجملة، وفي سياق قصة موسى ورد ذكر أم موسى وما منّ الله به عليها من نعم أكثر من مرة، وأم موسى هي «يوكابد». وزوجها هو عمران بن فاهت، وينتسب إلى لاوي بن يعقوب عليه السلام، وكان عمران من العاملين في قصر فرعون.
وكان فرعون قد طغى وبغى وتجبر وآثر الحياة الدنيا. وأعرض عن طاعة الله وعبادته، وقسم رعيته إلى أقسام وفرق وأنواع يستضعف طائفة منهم، وهم شعب بني إسرائيل الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله، وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض. وقد سلط عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر يستعبدهم ويستخدمهم في أقسى الصنائع والحرف وكان مع ذلك يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
بشرى ورؤيا
وكان بنو إسرائيل يتدارسون فيما بينهم ما يؤثرونه عن إبراهيم عليه السلام من انه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه. وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل. فتحدث بها المصريون فيما بينهم، ووصلت إلى فرعون حيث ذكرها له بعض أمرائه وخلصائه وهم يسمرون عنده فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل حذرا من وجود هذا الغلام، ولن يغني حذر من قدر. (قصص الأنبياء لابن كثير الدمشقي: ص 206).
ويروى أن فرعون رأى في منامه كأن نارا أقبلت في نحو بيت المقدس فأحرقت دور مصر ولم تضر بني إسرائيل، فلما استيقظ هاله ذلك فجمع الكهنة والسحرة وسألهم عن ذلك، فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء يكون هلاك أهل مصر على يديه، فأمر بقتل كل ولد يولد لبني إسرائيل وترك البنات فكانت القابلات والحرس يطوفون بيوت بني إسرائيل يراقبون النساء الحوامل ويتابعون حملهن حتى موعد الولادة، فإن كان المولود ذكرا ذبحوه وإن كانت أنثى تركوها، فقتل ما لا يعد ولا يحصى من ذكور بني إسرائيل، حتى إن المصريين اشتكوا من تناقص عدد بني إسرائيل إلى الحد الذي سيقبلون معه القيام بالأعمال الدنيئة التي كان يقوم بها بنو إسرائيل، فوافق على ذبحهم عاما وتركهم عاما. فولد هارون أخو موسى في عام المسامحة، وحملت أم موسى به في عام الذبح وكانت لا تبدو عليها علامات الحمل حتى موعد الولادة. ومع ذلك أصابها الهم حين الحمل وحين الولادة. ولكن العناية الإلهية أعمت أعين القتلة عنها وعن ولدها.
المنّة الإلهية
كانت أم موسى زكية النفس نقية القلب شفيفة الروح، فجاءها الوحي أو الإلهام يطمئن قلبها ويرشدها الى ما تفعله بابنها فإذا خافت عليه وضعته في تابوت خشبي محكم الصنع، وكان بيتها مطلا على النيل، وألقت بالتابوت في النيل وتحتفظ بحبل تربط به التابوت وتجذبه عندما يزول الخطر.
وفي أحد الأيام استشعرت أم موسى الخطر على وليدها فوضعته في التابوت وأنزلت التابوت في مياه النيل ونسيت أن تربط الحبل أو ربطته به لكنه أفلت منها فحملته مياه النيل إلى قصر فرعون.
قرة العين
وكان ما كان من أمر طلب آسية بنت مزاحم من فرعون أن يبقي على موسى ولا يقتله (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) وتمنع فرعون ثم وافق في النهاية وعلى الجانب الآخر انتاب الحزن والغم قلب أم موسى وسيطرا على نفسها وأصبح فؤادها فارغا إلا من الابن الحبيب الغائب، ولكن الله سبحانه الذي اختار موسى لكي يكون من أنبيائه المصطفين الأخيار واختار هذه المرأة تحديدا لكي تكون أمه وربط على قلبها أي بث فيه السكينة والطمأنينة وبشرها بأنه سيعيد لها ابنها ليس لكي يكون مجرد ابن بل ليكون من المرسلين وكما كان قرة عين لامرأة فرعون يكون قرة عين لأمه.
ولكي تتحقق إرادة الله جل وعلا امتنع موسى الوليد عن الرضاعة من أي مرضع أو تلقي أي طعام، فأمرت آسية بالبحث عن مرضع له وفي الوقت نفسه أمرت أم موسى أخته الكبرى، بأن تتبع أثره وتعرف أخباره وتطمئنها عليه. فعرضت عليهم أن تدلهم على آل بيت يتكفلون به ويحسنون العناية به، فأطلقوها، وذهبوا معها إلى منزلهم، فأخذته أمه فلما أرضعته التقم ثديها وأخذ يمتصه، ويرتضعه، ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى آسية يعلمها بذلك فاستدعتها إلى منزلها وعرضت عليها أن تكون عندها وأن تحسن إليها، فأبت عليها وقالت: إن لي بعلا وأولادا ولست أقدر على هذا إلا أن ترسليه معي، فأرسلته معها ورتبت لها رواتب وأجرت عليها النفقات والهبات والكساوي فرحبت به تحوزه إلى رجلها وقد جمع الله شمله بشملها».