دهشة المشهد كانت بجلال صاحبته، الألوف.. بل المدينة عن بكرة أبيها، خرجت تهتف باسمها، تطوف شوارع مصر وتتوسط لدى زوجها ولدى والي المدينة السري بن الحكم بن يوسف حتى يتوسط لديها لتقبل البقاء بينهم، ولا تغادرهم إلى حيث نشأت بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنورة.
هكذا أحب أهل مصر السيدة «نفيسة» ابنة الإمام الحسن الأنور بن زيد الأبلج ابن الإمام الحسن ابن الإمام علي بن أبي طالب.
قبلت السيدة نفيسة العلم وساطة أهل مصر وبقيت بينهم حتى وفاتها بشهر رمضان ـ وهي صائمة ـ لعام 208 هجرية، أما الميلاد فكان ليوم الأربعاء الحادي عشر من ربيع الأول عام 145 هجرية، بمكة المكرمة وبقيت بها حتى بلغت خمسة أعوام، درجت فيها محاطة بالعزة والكرامة، حتى صحبها أبوها مع أمها زينب بنت الحسن إلى المدينة المنورة، فكانت تذهب إلى المسجد النبوي وتسمع إلى الشيوخ، وتتلقى الحديث والفقه من علمائه، حتى حصلت على لقب «نفيسة العلم» قبل أن تصل لسن الزواج، ولما وصلته رغب فيها شباب آل البيت، فكان أبوها يردهم ردا جميلا إلى أن أتاها إسحاق المؤتمن ابن جعفر الصادق رضي الله عنه، وتزوجا في بيت أبيه، وبزواجهما اجتمع نور الحسن والحسين، وأصبحت السيدة نفيسة كريمة الدارين، وأنجبت لإسحاق ولدا وبنتا هما القاسم وأم كلثوم.
استقبال عظيم
كانت تمضي أكثر وقتها في حرم جدها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكانت زاهدة دون مبالغة، فلم تكن تقاطع الحياة، إنما كان هجرها للدنيا واقعا على كل ما يعوق عن العبادة والتزود، وكانت الآخرة نصب عينيها، حتى انها حفرت قبرها الذي دفنت فيه بيديها، وكانت تحفظ القرآن وتفسره ويؤمها الناس ليسمعوا تفسيرها، وكانت تدعو الله قائلة: «إلهي يسر لي زيارة قبر خليلك إبراهيم» فاستجاب الله لها، وزارت هي وزوجها إسحاق المؤتمن قبر الخليل. ثم رحلا إلى مصر في رمضان عام 193 هجرية في عهد هارون الرشيد، وفي العريش ـ بأقصى شمال مصر الشرقي ـ استقبلها أهل مصر بالتكبير والتهليل وخرجت الهوادج والخيول تحوطها وزوجها، حتى نزلا بدار كبير التجار وقتها جمال الدين عبدالله الجصاص.
مكانتها
وصلت السيدة نفيسة إلى القاهرة يوم السبت 26 رمضان 193 هجرية قبل أن يقدم إليها الإمام الشافعي بخمس سنوات، ونزلت بدار سيدة من المصريين تدعى أم هانئ وكانت دارا رحيبة، فأخذ يقبل عليها الناس يلتمسون منها العلم، حتى ازدحم وقتها، وكادت تنشغل عما اعتادت عليه من العبادات، فخرجت على الناس قائلة: «إني كنت قد اعتزمت المقام عندكم، غير أني امرأة ضعيفة، وقد تكاثر حولي الناس فشغلوني عن أورادي، وجمع زاد معادي، وقد زاد حنيني إلى روضة جدي المصطفى» ففزع الناس لقولها، وأبوا عليها رحيلها، حتى تدخل الوالي «السري بن الحكم» وقال لها: «يا ابنة رسول الله إني كفيل بإزالة ما تشكين منه» ووهبها دارا واسعة، ثم حدد موعدا ـ يومين أسبوعيا ـ يزورها الناس فيهما طلبا للعلم والنصيحة، لتتفرغ هي للعبادة بقية الأسبوع، فرضيت وبقيت.
وكان الأمراء يعرفون قدرها وقدرتها على توجيه عامة الناس، بل دفعهم للثورة في الحق إن احتاج الأمر، حتى ان أحد الأمراء قبض أعوانه على رجل من العامة ليعذبوه فبينما هو سائر معهم، مر بدار السيدة نفيسة فصاح مستجيرا بها، فدعت له بالخلاص قائلة: «حجب الله عنك أبصار الظالمين» ولما وصل الأعوان بالرجل بين يدي الأمير، قالوا له: إنه مر بالسيدة نفيسة فاستجار بها وسألها الدعاء فدعت له بخلاصه، فقال الأمير: «أو بلغ من ظلمي هذا يا رب، إني تائب إليك واستغفرك، وصرف الأمير الرجل، ثم جمع ماله وتصدق ببعضه على الفقراء والمساكين».