هو أبو الدرداء المتعبد، الزاهد، الحكيم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال البخاري: اسمه عامر بن مالك، ولقبه: عويمر، وهو من الأنصار من الخزرج، قال عنه صلى الله عليه وسلم: «حكيم أمتي عويمر»، وكان الصحابة يقولون: «أرحمنا بنا أبو بكر، وأنطقنا بالحق عمر، وأميننا أبو عبيدة، وأعلمنا بالحرام والحلال معاذ، وأقرؤنا أبي، ورجل عنده علم ابن مسعود، وتبعهم عويمر أبو الدرداء بالعقل».
تأخر إسلامه
جاء إسلام أبي الدرداء متأخرا، ولكنه جاء متدفقا مندفعا دافعا إلى محاولة تعويض ما فاته، فقد كان رضي الله عنه من آخر الأنصار إسلاما، وكان يعبد صنما، وضعه في أشرف مكان في بيته، يضمخه كل يوم بالطيب، ويلقي عليه أفخر الثياب وأغلاها، وذات يوم عزم عبدالله بن رواحة، وكان صديقا لأبي الدرداء في الجاهلية ومقربا إلى نفسه، على أن يحرك عقل وتفكير صاحبه الذي لايزال يعبد صنما رغم نور الإسلام الذي أضاء المدينة المنورة، وتلك من خصال الصحبة الصالحة ومن محاسنها، وظل يدعوه إلى الإسلام فيقول: يا عويمر، أترضى أن تكون آخر دارك إسلاما؟ وكان قومه قد أسلموا قبله، فيأبى أبو الدرداء، وذات يوم انطلق ابن رواحة قاصدا بيت أبي الدرداء، وقد بيت أمرا لعله يفيد في إثارة عقل صاحبه، وتحكي أم الدرداء فتقول: جاء عبدالله بن رواحة ودخل بيتي فسأل عن عويمر، فأخبرته أنه خرج آنفا، وكنت أمشط رأسي، فدخل ابن رواحة ومعه قادوم فأنزل الصنم وجعل يقدده «أي جعله قطعا»، وسمعت صوت القادوم وهو يضرب ذلك الصنم، فقلت: أهلكتني يا ابن رواحة، فخرج، وأقبل عويمر، فوجدني أبكي شفقا منه، فقال: ما شأنك؟ قلت: أخوك عبدالله بن رواحة دخل فصنع ما ترى، فنظر أبو الدرداء إلى الصنم المحطم، وغضب غضبا شديدا، ثم فكر وانكشف أمام عينيه فجأة زيف ما كان يفعل، وأحس للوهلة الأولى أنه أهان نفسه، وأهان عقله، وأهان إنسانيته، حين كان يعبد قطعة خشب، لا تضر، ولا تنفع، وأحس بنور الحقيقة يملأ قلبه، فجعل يجمع الصنم ويقول: ويحك هلا امتنعت؟ ألا دفعت عن نفسك؟ فقالت أم الدرداء: لو كان ينفع أو يدفع عن أحد دفع عن نفسه ونفعها، فقال أبو الدرداء كمن استيقظ من سبات عميق: أعدي لي ماء في المغتسل، فاغتسل، ولبس حلته ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه ابن رواحة مقبلا، فقال: يا رسول الله هذا أبو الدرداء، وما أراه إلا جاء في طلبنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما جاء ليسلم، إن ربي وعدني بأبي الدرداء أن يسلم».
الفارس النبيل
شهد أبو الدرداء أحدا والمشاهد كلها، وكان بلاؤه يوم أحد مشهودا، ونال تنويه القائد الأعلى لقوات المسلمين المحاربة في سبيل الله محمد صلى الله عليه وسلم، وتقول الروايات انه لما هزم أصحاب رسول الله يوم أحد، كان أبو الدرداء يومئذ فيمن فاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فلما أظلهم المشركون من فوقهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ليس لهم أن يعلونا، فثاب إليه ناس، وانتدبوا «أسرعوا»، وفيهم عويمر أبو الدرداء، حتى أدحضوهم عن مكانهم، وكان أبو الدرداء يومئذ حسن البلاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم الفارس عويمر»، وكان ذلك وسام الشرف من الطبقة الأولى يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر الصحابي الجليل.
ترك أبو الدرداء التجارة وكانت مهنته وانكب على العبادة يريد رضا ربه، وكان يقول: «كنت تاجرا قبل المبعث فلما جاء الإسلام جمعت التجارة والعبادة، فلم يجتمعا فتركت التجارة ولزمت العبادة»، وهو معدود فيمن جمع القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو أحد القراء السبعة المشهورين الثقاة، وروى سعد بن إسحاق عن محمد بن كعب قال: جمع القرآن خمسة: معاذ، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبي بن كعب، وأبو أيوب، فلما كان زمن عمر كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إن أهل الشام قد كثروا وملأوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم فأعني برجال يعلمونهم، فدعا عمر الخمسة، فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لننساهم، هذا شيخ كبير لأبي أيوب وأما هذا فسقيم لأبي فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء، فقال عمر: ابدأوا بحمص فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن فإذا رأيتم ذلك، فوجهوا إليهم طائفة من الناس، فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين قال: فقدموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة بن الصامت، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين فمات في طاعون عمواس، ثم صار عبادة إلى فلسطين وبها مات، ولم يزل أبو الدرداء بدمشق وتصدر للإقراء فيها في عهد عمر بن الخطاب وإليه انتهت مشيخة الإقراء فيها، وولي قضاءها في خلافة عثمان، وظل بها حتى مات.
قالت أم الدرداء: لما احتضر أبو الدرداء جعل يقول: من يعمل لمثل يومي هذا؟ من يعمل لمثل مضجعي هذا؟ وكان رضي الله عنه قد عاش حياة زهد وتواضع وعلم وذكر، ويروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب زاره في بيته فلم ير فيه غير فراش من جلد، وكساء رقيق لا يحميه من البرد، فقال له: رحمك الله، ألم أوسع عليك؟ فقال له أبو الدرداء: أتذكر حديثا حدثناه رسول الله؟ قال عمر: أي حديث؟ قال: «ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب»، قال: نعم، قال أبو الدرداء: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ فبكى عمر، وبكى أبو الدرداء.