على الرغم من رهافة الحس ونبل المشاعر ورقة العاطفة، كانت عاتكة بنت زيد الى جانب كل هذا كغيرها من فتيات الإسلام اللواتي تخرجن في مدرسة النبوة، لا تعرف الخضوع في القول ولا الهبوط في المستوى، ولا تقبل الضيم والذل، بل هي شجاعة، ثابتة، مجاهدة، وكانت بحق نموذجا فريدا للمرأة المسلمة.
وعاتكة وهي مخزومية قرشية، أخت سعيد بن زيد زوج فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنهم جميعا، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأمها أم كريز بنت الحضرمي، وخالها العلاء بن الحضرمي الصحابي المشهور، وخالتها الصعبة بنت الحضرمي، أم طلحة بن عبيد الله، أحد العشرة المبشرين بالجنة أيضا وقد اشتهرت عاتكة بين نساء قريش بالبلاغة والفصاحة وقول الشعر ورجاحة العقل.
ابن أبي بكر
قال عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: «من أراد الشهادة فليتزوج بعاتكة» لأنها ما تزوجت أحدا الا واستشهد وكان أزواجها كلهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تزوجها عبدالله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وكان شديد التعلق بها حتى انشغل عن كثير من أموره، وفي أحد أيام الجمعة مر عليه والده أبوبكر الصديق رضي الله عنه ليذهبا معا للصلاة، فسمعه من أسفل الدار يناجي زوجته عاتكة ويحدثها بالكلام المعسول، فتركه وذهب الى صلاته ولما رجع وجده على الحال نفسه فناداه: يا عبدالله أأجمعت؟ فقال عبدالله: أو صلى الناس؟ قال أبوبكر: نعم، قد شغلتك عاتكة عن المعاش والتجارة وقد ألهتك عن فرائض الصلاة، طلقها.
ولم يسع عبدالله ان يخالف أمره، فطلقها واحدة غير انه تألم أشد الألم لفراق زوجه حتى أثر فيه ذلك، وشعر والده بذلك وعرف تعلقه بعاتكة فرق له لشدة حبه لها فأذن له ان يراجعها، وفرح بذلك وأعتق غلاما كان لديه اسمه أيمن كرامة لها، ثم جرى حتى وصل اليها وصار يراجعها ويقنعها مرات ومرات حتى رضيت وعادت اليه.
كانت عاتكة ذات جمال أخاذ وكمال يسلب الألباب، وكانت من السابقين الى الاسلام، من الذين هاجروا الى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عرفت حق ربها عليها، فكانت عابدة مخلصة، فاحتلت مكانة رفيعة واقتبست الكثير من العلم والزهد، وحين كانت زوجة لعبدالله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه اشترط عليها الا تتزوج بعد، ووهبها حديقة وشهد عبدالله بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، غزوة الطائف، فأصابه سهم وانتكس الجرح بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأربعين ليلة، فمات على اثر ذلك الجرح، فرثته عاتكة بالشعر.
مع عمر والزبير رضي الله عنهما
لم يمر وقت طويل حتى خطبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي لم يكن غريبا عنها، فهو من أقاربها، ولكن الشرط الذي اشترطه عليها زوجها السابق (عبدالله بن أبي بكر) عندما وهبها الحديقة وهو الا تتزوج من بعد، أصبح عائقا في طريق زواجها الثاني، فنصحها عمر وقال لها: استفت، فاستفتت عليا بن أبي طالب رضي الله عنه، فأفتى بأن ترد الحديقة الى أهله، وهكذا تزوجت عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة اثنتي عشرة من الهجرة ورزقها الله منه ولدا اسمه عياض، وعندما قتل رضي الله عنه بخنجر أبي لؤلؤة المجوسي رثته عاتكة بشعر جميل.
وبعد انقضاء أيام عدتها طلب الزبير بن العوام رضي الله عنه الزواج منها فلم تقبل الا بعد إلحاح، وعاشت معه الى ان اغتاله عمرو بن جرموز سنة ست وثلاثين من الهجرة يوم الجمل، وهو بوادي السباع عندما انسحب من ارض المعركة رافضا محاربة علي كرم الله وجهه، فرثته كما رثت أزواجها السابقين. وما يبين اخلاصها لزوجها ان عبدالله بن الزبير أرسل اليها يحاكيها في ارثها، فلم تبد أي طمع في ماله على الرغم من ثراء الزبير، وانما رضيت بما أعطوها من الإرث.
وبعد انقضاء عدتها من الزبير، جاءها علي بن أبي طالب رضي الله عنه خاطبا فقالت له: اني لأضن بك يا ابن عم رسول الله عن القتل، فأخذ برأيها ورجع عــــن خطبتهــــا وكان يردد بعد ذلك «مــــن أحب الشهادة الحاضرة فليتزوج عاتكة».
وكانـــت وفاتهـــا سنــــــــة أربعـــين للهجرة.