فتعريف الإجارة «تمليك المنافع بعوض أو عقد على المنافع بعوض، وهي عقد تحصل به مصلحة ومنفعة للمستأجر من المستأجر منه مقابل عوض معلوم»، وأنواعها كالتالي، نوع لا تصح فيه الإجارة أو النيابة كالصلاة والصيام عن الحي، ونوع تصح فيه كتوزيع الزكاة والكفارات وذبح الأضاحي والهدي، ونوع اختلف فيه الفقهاء كالحج عن الآخرين.
وقد اختلف الفقهاء في حكم الإجارة أو الاستئجار على الحج والعمرة على ثلاثة أقوال، القول الأول وهو الجواز، وسنبينه في هذا الجزء، والقول الثاني هو الجواز مع الكراهة، والقول الثالث هو عدم الجواز، والقولان الآخران سنبينهما بإسهاب في الأسبوع القادم بإذن الله. فأما القول الأول بالجواز فقد ذهب إليه الشافعية ورواية في مذهب الحنابلة وقول الظاهرية، قال الإمامان الشافعي واحمد «تصح الإجارة على الحج، ويستحق الأجرة، ويقع الحج عن المستأجر، اعتبارا لسائر العقود».
كما في الأم والمجموع للنووي، وهداية السالك، والكافي، وبداية المجتهد، الغاية القصوى، وقال الشافعي «للرجل أن يستأجر الرجل يحج عنه إذا كان لا يقدر على الركوب لضعفه وكان ذا قدرة بماله، ولوارثه بعده، والإجارة على الحج جائزة، جوازها في الأعمال سواء، بل الإجارة إن شاء الله تعالى على البر خير منها على ما لا بر فيه«، وقال في العمدة: «النيابة في الحج إن كانت بغير أجرة فحسنة، لأنه فعل معروف وإن كانت بأجرة، فاختلف المذهب فيها والمنصوص عن مالك الكراهة، رأى أنه من باب أكل الدنيا بعمل الآخرة».
قلت: وهو مذهب الحنابلة في رواية عنهم كما ذكر ذلك ابن قدامة في المغنى والمرداوي في الإنصاف، وهو قول الظاهرية كما في المحلى لابن حزم، وفي كتاب شرح العمدة في بيان مناسك الحج والعمرة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله «ولا يجوز الاستئجار على الحج وغيره من الأعمال التي لا يجوز أن تفعل إلا على وجه التقرب، مثل الأذان والإمامة وتعلم القران والحديث والفقه في إحدى الروايتين»، فأما أن يأخذ نفقة يحج بها فيجوز هذه طريقة القاضي وأصحابه ومن بعدهم.
وقال ابن أبي موسى: في الإجارة على الحج روايتان كره أحمد رضي الله عنه في إحداهما أن يأخذ دراهم فيحج بها، وعن غيره قال: «إلا أن يكون متبرعا بالحج عن أبيه أو عن أخيه أو أعن أمه، وأجاز ذلك في موضع آخر، وعلى هذا: يكره أخذ نفقة وأجرة مع الجواز، وتجب على الكفاية وإنما تكون الروايتان في الكراهة فقط، وأجاز أبو إسحاق الاستئجار على الحج، وما يختص نفعه مما ليس بواجب على الكافية دون ما يعم فلا يجوز أن يؤخذ على الخير أجر ويجوز أن يؤخذ على الحج عن الغير أجر لأن أفعال الخير على ضربين، ما كان فرضا على العامة وغيرهم مثل الأذان والصلاة وما أشبه ذلك لا يجوز أن يؤخذ عليه أجر، وما انفرد به من حج عنه فهو جائز مثل البناء لبناء مسجد يأخذ عليه الأجرة، لأنه ليس بواجب على الذي يبني بناء، فالمنصوص عن أحمد كما جاء في رواية أبي طالب: والذي يحج عن الناس بالأجر ليس عندنا فيه شيء، وما سمعنا أن أحدا استأجر من حج عن ميت، وقال في رواية ابن منصور وذكر له قول سفيان: أكره أن يستأجر الرجل عن والديه يحج عنهما فقال أحمد: نحن نكره هذا إلا أن يعينه، فقد نص على كراهة الأجرة ولم يكره النفقة.
قلت: قال ابن قدامة رحمه الله في المغني «وما فضل معه من المال رده إلا أن يؤذن له في أخذه وينفق على نفسه بقدر الحاجة من غير إسراف ولا تقتير«.
وأما الرواية التي أخذ القاضي منها جواز الاستئجار، فقال في رواية عبدالله، وقد سأله فمن يكري نفسه ويحج قال: «لا بأس» وقال في رواية الكوسج: «يكري نفسه ويحج إلا أن هذا إنما أراد به أن يكري نفسه للخدمة والعمل» ولهذا قال: يكري نفسه ويحج، وفي مثل هذا جاءت السنة.
قلت: والحديث عن أبي أمامة (يقال أبو أميمة) التميمي قال: «كنت رجلا أكري في هذا الوجه وكان ناس يقولون: ليس لك حج، فلقيت ابن عمر فقلت يا أبا عبدالرحمن: إني رجل أكري في هذا الوجه وإن أناسا يقولون: إنه ليس لك حج، فقال ابن عمر: أليس تحرم وتلبي وتطوف بالبيت وتفيض من عرفات وترمي الجمار؟ قال: قلت، بلى، قال: فإن لك حجا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن مثل ما سألته عنه فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) فأرسل له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه هذه الآية وقال: «لك حج«. أخرجه أحمد وأبو داود باب الكري، وأخرجه الحاكم في المستدرك كتاب المناسك، والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الحج باب الرجل يؤجر نفسه من يخدمه.
قلت: وهو حديث صحيح، وقد أورده حافظ الوقت شيخنا الألباني رحمه الله تعالى في صحيح سنن أبي داود، وقال عنه العلامة المحدث الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إسناده صحيح.
وعن أبي السليل قال: قلت لابن عباس: إني رجل أكري وإن أناسا يزعمون يقولون: إنما أنت أجير قال: بلى لك حج حسن جميل إذا اتقيت الله وأديت الأمانة وأحسنت الصحابة، رواه حرب، وأبو السليل هو ضرير بن نقير القيسي البصري، وثقه يحيى بن معين في التاريخ، وإلى الجزء الثاني في الأسبوع القادم بإذن الله.