- رفع السلاح محرم في مكة إلا لمقاتلة أهل البغي والمنتهكين لحرمتها أو لإقامة الحدود لما فيهما من استقرار للأمن
- في الحرم يعظم قدر المعاصي ويحاسب الإنسان على مجرد إرادة السوء فيـه ولو لم يكن في مكــة نفسهــا
فطرت النفوس والقلوب على التعلق بمكة المكرمة، استجابة لدعاء خليل الله إبراهيم عليه السلام في قوله (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)، فلا تكاد تفارقه إلا وقد هفت مرة أخرى للرجوع والعودة إليه، وليس الأمر يقتصر على مكة فقط، بل للمدينة خصائصها التي ميزها الله عز وجل بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها» متفق عليه، وفي الحديث الآخر «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة» رواه مسلم، لكن كثيرا من الناس اليوم قد يأتي مكة والمدينة معتمرا أو حاجا دون أن يعي ويتعلم كثيرا من المسائل المتعلقة بهما، مما قد يوقعه في كثير من المخالفات والمحذورات التي تترتب عليها فدية بالإضافة إلى الإثم، هذا ما أكده الإمام والخطيب في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الشيخ محمد العصيمي. وأوضح العصيمي أن من خصائص الحرم أن الله عز وجل يحاسب الإنسان على إرادة السوء فيه فضلا عن العمل السيئ، ويشمل ذلك الكفر والمعصية والبدعة والشرك وغيرها، وهي تشمل كذلك من أراد الإلحاد في الحرم ولو كان في بلده، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه «لو أن رجلا هم فيه بإلحاد وهو بعدن أبين (موضع في اليمن) لأذاقه الله عذابا أليما»، لافتا إلى حرمة رفع السلاح بمكة إلا لمقاتلة البغاة أو لإقامة الحدود لما فيهما من استقرار للأمن. وأضاف أنه لا يوجد حرم غير مكة والمدينة، مشيرا إلى أن لفظة «الحرم» لفظة شرعية لا ينبغي التوسع في إطلاقها على المساجد الأخرى أو دور العلم، «الأنباء» التقت الشيخ محمد العصيمي للحديث عن الحرمين اللذين خصهما الله عز وجل من دون البقاع، وعن شيء من أحكامهما وفضل زيارتهما وتصحيح المفاهيم الخاطئة عند بعض الحجاج والمعتمرين، وفيما يلي تفاصيل اللقاء:
لماذا يكثر الحديث عن ذكر خصائص الحرمين، خاصة في مثل هذه الأيام الفضيلة؟
تكمن أهمية الموضوع من خلال عدة أمور:
أولا: أنه يبعث في نفس الإنسان تعظيم هذا المكان المبارك، وذلك حينما يقرأ ويسمع ما جعله الله له من خصائص عديدة، وصفات كثيرة، وكيف لا يعظم وقد أقسم الله به في كتابه كما في قوله تعالى (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين)، وقال تعالى (لا أقسم بهذا البلد)، فإذا كان الله جل في علاه يقسم به فلأنه عظيم عنده، وله مكانة كبيرة وقدر رفيع.
ثانيا: طرح هذا الموضوع يعين على فهم وتدبر كلام الله تعالى من خلال ما جاء فيه من كثرة الآيات المبينة والدالة على تخصيص الحرمين بمزيد من القدر والمكانة، فإن كثيرا من الناس اليوم قد يأتي مكة والمدينة معتمرا، وزائرا وحاجا دون أن يعي ويتعلم كثيرا من المسائل المتعلقة بالحرمين، مما قد يوقعه الجهل بأحكام الحرمين في كثير من المخالفات والمحذورات والتي قد يترتب عليها فدية ناهيك عن الإثم المترتب على فعلها.
لكن ما المقصود بالحرمين وما أسماؤه؟
لا نقصد بالحرم كما يتبادر إلى الذهن الكعبة شرفها الله وزادها قدرا ورفعه، وإنما نقصد الحدود المحددة حول مكة، وكذلك حول المدينة وهذه الحدود توقيفية ليس لأحد أن يجتهد فيها فيزيد أو ينقص، أما أسماء حرم مكة فيسمى الحرم، والمسجد الحرام قال الله تعالى (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين)، والمراد به حدود مكة وليس دخول الكعبة حتما.
ما معنى الحرم؟
ذكرت عدة أقوال في هذا الشأن، فبعض أهل العلم قال ان الحرم سمي لأنه يحرم فيه ما كان حلالا للإنسان خارجه من تنفير الصيد وقطع الشجر، ونحوها من محظورات الحرم، وقيل سمي حرما لأن أهله كان يأمنون فيه من السبي والغارة والحروب والقتل، بينما كانت هذه المظاهر حول مكة وقريبا منها ظاهرة ومتفشية قال تعالى (أولم نمكن لهم حرما آمنا).
هل هناك حرم غير حرمي مكة والمدينة؟
الصحيح أنه لا يوجد حرم غير هذين، فلا ينبغي التوسع في إطلاق لفظة الحرم على مسجد من المساجد، أو مكان تعليم، أو سور وزارة، أو نحوها لأن هذا لفظ شرعي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية «ليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره إلا هذان لا كما يسمى بعض الجهال، أما بيت المقدس وحرم الخليل فليسا بحرم باتفاق المسلمين».
من أول من حدد الحرمين؟
بالنسبة لحرم مكة فقد حدده رب العالمين جل في علاه، قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد قد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض» متفق عليه، ولا يعارض هذا حديث «إن إبراهيم حرم مكة» رواه مسلم، فهذا محمول على أن إبراهيم جاء ليذكر الناس بحرمة مكة بعد أن نسي الناس ذلك، أما حرم المدينة فالذي حدده هو النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة» رواه مسلم.
حدثنا عن سبب كون القلوب دائما متعلقة بهذا المكان المبارك؟
هذا صحيح، فالله جل وعلا قد فطر النفوس والقلوب على التعلق بهذا المكان وهذا إنما هو استجابة لدعاء خليل الله إبراهيم عليه السلام في قوله (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)، هذا هو الدعاء ولهذا قال بعد ذلك: (ربنا وتقبل دعاء)، فجاءت الإجابة من الله كما في قوله جل وعلا (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا)، ومعنى «مثابة» أي لا يملون منه، ولا يقضون منه نهمتهم وحاجتهم، فالقلوب دائمة التعلق بهذا المكان فلا تكاد تفارقه إلا وقد هفت مرة أخرى للرجوع والعودة إليه.
وهل هذه الفضيلة والخاصية تكون في المدينة النبوية كذلك؟
نعم، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها» متفق عليه، ومعنى «يأرز» أي يرجع، وأدل دليل على ذلك ما يشعر به المرء من طمأنينة النفس وسكون القلب والانشراح الذي يجده بمجرد ما تطأ قدمه هذه البقعة.
حالات ثلاث
ما معنى أن الله جعل مكة بلدا آمنا؟
كما ذكرت قبل سابقا أن الحرم من خصائصه وجود الأمن فيه كما قال تعالى على لسان إبراهيم (رب اجعل هذا بلدا آمنا) وهذا الأمن لم يكن موجودا في الإسلام فحسب بل كان حتى زمن الجاهلية ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن مر بن نوفل بهذا لما قال «إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا»، أي نخشى لو أسلمنا أن تعتدي علينا قبائل العرب المشركة فأنزل الله تعالى (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم).
لكن استثنى أهل العلم من هذه المسألة، أي جواز رفع السلاح في مكة، عدة حالات، أولاها فتح مكة فإن الله قد أحل للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك ساعة من نهار، وهي الساعة التي فتحت فيها مكة ثم بقيت حرمتها إلى يوم القيامة، وقد بين هذا النبي صلى الله عليه وسلم حين قال «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة» متفق عليه.
والحالة الثانية مقاتلة أهل البغي لأنهم هم البادئون بالبغي والعدوان وانتهاك حرمة مكة والبلد الحرام قال تعالى (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم)، والحالة الثالثة إقامة الحدود لما فيها من مصلحة عظيمة في استقرار الأمن والاقتصاص من المجرمين والمعتدين.
لابد لنا أيضا أن نعرف ما هو فضل الصلاة في الحرمين؟
بين النبي صلى الله عليه وسلم «أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه، والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة فيما سواه من المساجد» رواه أحمد، وهذا من فضل الله على الخلق يقول أبوبكر النقاشي في تفسيره «حسبت الصلاة بالمسجد الحرام فبلغت الصلاة الواحدة بالمسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة»، وقال بعض أهل العلم «هذا في صلاة المنفرد، أما لو صلاها جماعة فإنها تعدل سبعا وعشرين مرة مما ذكر من التضعيف»
وهل الفضيلة هنا في صلاة النفل أيضا أم في الفريضة فقط؟
اختلف العلماء رحمهم الله في شمول الفضيلة لصلاة النافلة في المسجد الحرام مع اتفاقهم على أنها متحققة في الفريضة، فذهب جماعة من أهل العلم الى أنه يشمل النافلة، وهو قول الشافعية والحنابلة وظاهر تبويب البخاري حيث أورد الحديث في كتاب صلاة التطوع من صحيحه ما يدل على أنه يرى هذا الرأي، رحمهم الله جميعا، وقال جماعة ان هذا في الفريضة خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم «صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة» متفق عليه، وقالوا «لو كان يشمل النفل لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركوا الصلاة في مسجده مع ما فيه من فضل ليصلوا في بيوتهم».
هل الفضيلة في الصلاة عند الكعبة أم تشمل الحرم كله؟
الراجح، والعلم عند الله، أن الفضيلة تشمل الحرم كله، وإن كانت عند البيت آكد، كما يفضل الصف الأول على الصفوف التي تليه، ومما يدل على ذلك انضمام قوله صلى الله عليه وسلم «صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة» رواه أحمد، فالفضيلة متعلقة بالصلاة في المسجد الحرام وهو اسم من اسماء الحرم وليس البيت فقط كما قدمناه في قوله تعالى (لتدخلن المسجد الحرام) أي الحرم كله، وهنا أذكر فائدة جليلة وهي أن الثواب هاهنا متعلق بالثواب لا في الإجزاء، بمعنى لو كان على رجل عشر صلوات لم يصلها نسيانا أو جهلا فلا يفهم أنه لو صلى صلاة واحدة في الحرم تكون مجزئة له ومسقطة للصلوات التي تركها.
مضاعفة السيئات
هل تضاعف السيئات والحسنات في الحرم؟
أما مضاعفة السيئات، فلا شك أن السيئة في الحرم ليست كغيره، ومن هنا يتبين جهل بعض الناس من خلال الوقوع في المحرمات داخل الحرم بل حتى قريبا من البيت، شرفه الله، فلا يتورعون عن الغيبة والمعاكسات وشرب الدخان والاستهزاء بخلق الله والسب والشتم وإيذاء المسلمين، وهذا ينافي تعظيم الحرم وتوقيره، ولأجل هذا الأمر كان السلف يهابون المقام في مكة ليس رغبة عنها وغنما وإنما خوفهم وخشيتهم من أن يعصوا الله تعالى فيه، قال ابن عباس «ما لي ولبلد تضاعف فيه السيئات»، والمضاعفة هنا ليست مضاعفة عدد وكم، وإنما مضاعفة كيف وصفة، بمعنى أن السيئة بواحدة في العدد لكن العقوبة المترتبة على المعصية في الحرم أعظم من غيره.
ما معنى قول الله تعالى (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم)؟
ذهب جماعة من أهل العلم الى أن من خصائص الحرم أن الله عز وجل يحاسب الإنسان على إرادة السوء في الحرم فضلا عن العمل السيئ، كل ذلك تعظيما للحرم، ومعنى الإلحاد، هو الميل إلى الباطل، ولا يختص هذا بالكفر فقط وإنما يشمل المعصية والبدعة والشرك وغيره، وكذلك فإن إرادة الإلحاد لا تختص بوجودها في الحرم وإنما تشمل من أراد الإلحاد في الحرم ولو كان في بلده، قال ابن مسعود «لو أن رجلا هم فيه بإلحاد وهو بعدن أبين (موضع في اليمن) لأذاقه الله عذابا أليما».
وماذا عن مضاعفة الحسنات؟
أيضا نص غير واحد من أهل العلم على أن الحسنات تضاعف زمانا ومكانا إذا كانا فاضلين كما في حديث «الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء» متفق عليه.
ماذا عن تنفير حمام الحرم؟
لا يجوز تنفير صيد الحرم ، ومن باب أولى يحرم قتله ودهسه.
وماذا لو وجد إنسان شيئا ضائعا في الحرم هل يلتقطه؟
لقطة الحرم لها حرمة أكثر من غيرها، ومما يميزها عن غيرها أن اللقطة في غير الحرم تعرف سنة ثم ينتفع بها الملتقط، ولا يعني أنه يملكها، وأما اللقطة في الحرم فإنه يعرفها الدهر كله كما جاء في الحديث «لا تحل لقطتها إلا لمنشد»، ولكن اليوم، ولله الحمد، وجدت أماكن لحفظ الأشياء المفقودة ففي هذه الحالة، من أوصلها إليها فقد برئت ذمته إن شاء الله تعالى.
يكره نقل تراب مكة إلى خارجها ويجوز نقل ماء زمزم
هناك خصائص كثيرة للحرم المكي، أوصلها بعضهم إلى قرابة 100 خصيصة، وما ذلك إلا لحرمة الحرم وتعظيمه وعلو قدره، تذكر أهمها على شكل نقاط من باب الإجمال، منها أولا عدم جواز دخول الكافر إلى حرم مكة لقوله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)، وأن الدجال لا يدخلها ولا يدخل المدينة، وليس على أهل مكة هدي وإن كانوا متمتعين، ومن الخصائص حرمة شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى) متفق عليه، وهذا نص صريح في عدم جواز السفر لأي مسجد على وجه الأرض على سبيل التعبد ومن باب أولى القبور والأضرحة والمشاهد والمزارات، كل هذا حماية لجناب التوحيد وسد كل باب مفض إلى الغلو والشرك.
ومنها كراهية نقل ترابه ويحرم إن قصد التبرك، ويجوز نقل ماء زمزم، والفرق بين المسألتين أن الماء يستخلف بخلاف التراب، وتغليظ الدية فيه كما قضى بذلك عمر رضي الله عنه، ولا يصح الذبح لمن كان عليه دم بمكة أن يذبح خارج حدود الحرم، حرمة قطع شجره وحشيشه، والمراد به ما نبت بفعل الله أما ما نبت بفعل الإنسان فيجوز قطعه، وأخيرا أسأل الله أن يجعلنا ممن يعرف للحرمين قدرهما ومكانتهما، وأن يبعث في قلوبنا تعظيم حرمه إنه على كل شيء قدير.