وقال المستر إدوارد ورمسي المستشرق الأميركي: «قبل أن نشرح علاقة الإسلام بالمدينة الحديثة، ونبين المركز الرفيع الذي يحتله بين الديانات العظيمة المعروفة، يجب علينا أن نرجع إلى الأيام التي سلفت قبل ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونتبين ما كان عليه سكان البادية من عبادة الأصنام، ووخيم العادات، ثم نبحث عن الإصلاحات التي أدخلها النبي الكريم في شبه الجزيرة، لأن الأشياء إنما تتميز بضدها»، ثم مضى مستر إدوارد يقول: «كانت بلاد العرب غارقة قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في أحط الدركات، حتى ليصعب علينا وصف تلك الخزعبلات التي كانت سائدة في كل مكان، فالفوضى العظيمة التي كان الناس منهمكين فيها في ذلك العصر، وجرائم الأطفال (يريد آباؤهم قتلهم من إملاق)، ووأد البنات وهن أحياء، والضحايا البشرية التي كانت تقدم باسم الدين، والحروب الدائمة التي تنشب آنا بعد آن بين القبائل المختلفة، والنقص المستديم بين أهل البلاد، وعدم وجود حكومة قوية، كل هذه كانت سببا في سيادة الهمجية، وازدياد الجرائم، وانتهاك الحرمات، وهذه حقيقة يحملها التاريخ ولا يمكن إنكارها، كانت بلاد العرب في حالة تشوش وبلبلة، وفوضى منتشرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ أي أمة من الأمم، حتى ان بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم الخليل عليه السلام لإقامة شعائره الدينية فيه قد حول إلى معبد يحتوي على 400 صنم، لكل قبيلة صنم تعبده، أما الأديان السماوية التي جاء بها موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء ـ عليهم السلام - فقد كانت فقدت نقاءها وفضيلتها الأصلية، وعبثت بها أيدي العابثين، فحرفوا كلام الله، ولوثوا معتقداتهم بخزعبلات واعتقادات لم ينزل الله بها من سلطان، حتى أصبح الناس لا يفرقون بين الفضيلة والرذيلة، وبين الحق والباطل، وبالاختصار كان العرب يعيشون في جو فاسد، مملوء بالغبار والميكروبات، حتى ان مجرد ذكرى هذه الأيام تقشعر منها النفوس، وهكذا كانت أحوال سكان شبه جزيرة العرب، وتلك هي عاداتهم حينما جاء محمد صلى الله عليه وسلم شارحا للعالم رسالة الله الواحد القهار، حاملا بيده اليمنى الهدى والفرقان، وبيده اليسرى نور المدينة الوضاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهناك بزغ فجر عصر جديد كان يرى في الأفق، وبشرت الأيام بسطوع شمس العرفان، وانقشاع سحب الجهالة المظلمة التي أخفت النور السماوي عن أبصار الناس زمنا طويلا، وأتى اليوم الذي أعادت فيه يد المصلح العظيم محمد صلى الله عليه وسلم ما فقد من العدل والحرية، والتسامح والفضيلة، أتى الوحي من عند الله إلى رسوله الكريم ففتحت حججه العقلية السديدة أعين أمة جاهلية، فانتبه العرب، وتحققوا أنهم كانوا نائمين في أحضان الرذيلة المظلمة»، ثم مضى المستر إدوارد يقول: «ولنتصور سكان البادية حينما رأوا أصنامهم تكسر على مرأى منهم وهم المشهورون بالشجاعة والصلابة في الرأي، وعدم الخضوع للغير، أفلا يثور ثائرهم، ويهمون بالفتك بمحمد؟ ولكن محمدا يتكلم بكلام الله فقد كانوا يجدون في نبرات صوته هدى وتأثيرا كبيرا، ولهذا لم يستطيعوا القيام ضد تيار الحق، ولم يجدوا بدا من الجري في مجاري النقاء الجديد، لأنه اجتاح كل الموانع والسدود كما يجتاح السيل الجارف كل شيء يقف في طريقه. وهكذا انتصرت الفضيلة على الرذيلة، وأخمدت قوة الله تلك الشرور والآثام، وحررت الإنسانية من قبضة الوحشية، وبالإجمال: أتى الوحي من عند الله العلي القدير إلى رسوله ونبيه الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ففتحت حججه العقلية السديدة أعين تلك الأمة الجاهلة، فانتبهوا وتحققوا، وعلموا أنهم كانوا في أحضان الرذيلة المظلمة».