كانت بغداد هادئة وادعة لا تكدر سماءها سحابة حتى جاء كتاب المأمون الى عامله اسحاق بن ابراهيم يأمره فيه ان يجمع القضاة والمحدثين وارباب الفتوى من العلماء ليمتحنهم في موضوع خلق القرآن، ثم دارت المناقشة المحتدمة، فوافق اهل المدارة على مذهب الخليفة وعارض من عارض مدليا بحجته وبعث اسحاق بالردود كما قيلت، منتظرا ما سيكون، فطلب المأمون ان يعقد المجلس ثانيا، وان يرسل اليه من خالف مكبلا بالاصفاد.
وحول تصدي ابن حنبل لظلم المعتصم: ان ابن حنبل ومحمد بن نوح سيقا الى طرسوس مكبلين بالقيود، وحلت رحمة الله بمحمد بن نوح فمات في الطريق قبل ان يترصده العذاب، وسار ابن حنبل وحيدا، ثم فاجأه موت المأمون، وتوقع ان تنفرج الغمة، ولكن حاشية المأمون حببت للمعتصم ان يواصل الامتحان والتعذيب عملا بوصية اخيه المأمون.
وعقد المجلس يتصدره المعتصم ودخل احمد بن حنبل وفي يديه الاغلال ثم قال: ان هؤلاء يا أمير المؤمنين يدعونني ان اقول: ان القرآن مخلوق وهو شيء لا اجده في كتاب الله وسنة رسوله، فقال المعتصم: اني لم آمر فيك بشيء ولولا اني وجدتك في يد من كان قبلي ما تعرضت لك، ثم التفت الى اصحابه قائلا: ناظروه، ودار حوار بين ابن حنبل والمعتزلة وتغلب عليهم بالحجة القاطعة وهو ما جعل ابن ابي دؤاد يقول للمعتصم انه ضال مبتدع يا امير المؤمنين، فيصيح المعتصم: انه لفقيه عالم، وانه ليسرني ان يكون معي يرد على اهل الملك، وهنا يتأجج الحقد في نفوس معارضيه فيصيحون: انه يسب المأمون ويقول: ان الله اهلكه انتقاما له، وقد وصفه بالفسق والفجور.
فيقول المعتصم: وهل ذاع في الناس ما يقول؟ فيصيح الحاضرون: نعم، فرد المعتصم: اذن لابد من العقاب. ولن استطيع ان اصف ما نال الامام من ظلم فادح حيث يقول ولده صالح عن عذاب ذلك اليوم: نقلا عن ابيه «لما جيء بالسياط نظر اليها المعتصم، وقال ائتوني بغيرها وقال للجلادين: تقدموا فجعل يتقدم الى الرجل منهم فيضربني سوطين، ويقول له: شد، قطع الله يدك، فلما ضربت تسعة عشر سوطا قال لي المعتصم: يا احمد، تقتل نفسك واني عليك لشفيق، فينحني الجلاد بقائمة سيفه ويقول: اتريد ان تغلب امير المؤمنين ومن معه، وقد قال بعض المحرضين: يا أمير المؤمنين، اقتله ودمه في عنقي فيقول لي المعتصم: ماذا ترى، فأقول اعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله لاقول بهما، فيأمر المعتصم الجلاد فيضربني بشدة حتى اغمي علي، فلم ادر ما بعدها الا وانا مطروح من دون قيد، فقال لي رجل ممن حضر: انا كفيناك على وجهك ودسناك وطرحناك على الارض فما شعرت بذلك.