اختار المصطفى صلى الله عليه وسلم لمرافقته في رحلته الكبرى أبا بكر الصديق رضي الله عنه دون سائر أصحابه، فكان اختيارا موفقا، لأن أبا بكر رضي الله عنه أصلح الصحابة للقيام بهذه الاختيار النبوي الكريم.
أبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الهجرة إلى أبي بكر رضي الله عنه تلميحا لا تصريحا، فلما أذن لأصحابه أن يهاجروا من مكة إلى المدينة طلب أبو بكر رضي الله عنه منه أن يأذن له في الهجرة، فأمهله صلى الله عليه وسلم قائلا «لا تعجل يا أبا بكر، لعل الله يجعل لك صاحبا».
وفهم الصديق رضي الله عنه من هذه الجملة أنه قد يصاحب الرسول صلى الله عليه وسلم في هجرته، فاستعد وجهز راحلتين تنقلانه هو والرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما أذن الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة وأخبر أبا بكر رضي الله عنه بذلك، فاضت دموع الصديق من فرط السرور، وأخذ يقول «الصحبة يا رسول الله، الصحبة يا رسول الله».
فقال صلى الله عليه وسلم «الصحبة يا أبا بكر».
فبكى أبو بكر من شدة الفرح، وخرجا سرا في ظلام الليل إلى غار ثور.
ولقد جد الكفار في البحث عن محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه إلى أن وقفوا على باب الغار، فقلق أبو بكر خوفا على حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وقال له: «لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا».
فقال النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم «يا أبا بكر، لا تحزن إن الله معنا يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
فهدأت نفس أبي بكر رضي الله عنه وعادت إلى قلبه الطمأنينة، وقال الله جل ثناؤه (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ـ التوبة: 40).
اختياره صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه
كانت المؤامرة التي دبرها الكفار أن تقوم مجموعة من قريش تتألف من كل عشيرة فيها، بحيث تنتدب عنها شابا فتيا، ويعمد هؤلاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيضربونه ضربة رجل واحد، وبذلك يتوزع دمه في جميع العشائر، فلا يقدر بنو عبد مناف على حربهم.
فلما كانت الليلة التي عزموا فيها على تنفيذ المؤامرة، تربصوا قرب داره، منتظرين الفرصة الملائمة لاغتياله.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام على فراشه قائلا «نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم».
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عز وجل أن يعمي أبصارهم، فخرج صلى الله عليه وسلم وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم التراب (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ـ يس: 9).
قال المرحوم عباس العقاد في تحليل شخصية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه «آداب الفروسية هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة، كانت القوة طبعا في علي فطر عليه، وأدبا من آداب الأسرة الهاشمية نشأ فيه، وعادة من عادات الفروسية العملية التي يتعودها كل فارس شجاع».
عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما
وكان دوره هو استطلاع أخبار قريش بمكة، والوقوف على رد الفعل الذي أحدثه خروج النبي صلى الله عليه وسلم سرا، وما عسى أن يدبره زعماؤها لوقف مسيرته، وبذلك يكون المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه على بينة مما يحاك خلفه من مؤامرات، فيستطيع أن يتقيها، ويبلغ مأمنه في طيبة (المدينة).
عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما
ولقد شاركت أسماء دورها الخالد في الهجرة أختها عائشة رضي الله عنها كما تروي معظم كتب السيرة، وكانت لاتزال طفلة دون العاشرة، فخاضت بذلك تجربة أكبر من سنها الصغيرة، مما أكسبها نضوجا فكريا ونفسيا مبكرا، أتاح لها القيام بأدوار كبرى في مستقبل حياتها. ولقد كان اقتحام ابنتي الصديق رضي الله عنهما ظلمات البيداء حاملتين لأبيهما وصاحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتهما من الماء والطعام، غير مباليتين بما قد يصيبهما من أذى، بلاء أي بلاء، وجهادا أجل جهاد.
أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما
وكان دورها رضي الله عنه في الهجرة أن تأتي النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه بالماء والزاد وهما في الغار، وظلت رضي الله عنها على ذلك ثلاث ليال متعاقبة، تقتحم الصحراء الموحشة في رهبة الظلام، وهي صغيرة، ولا تبالي العيون والأرصاد التي تبعثها قريش في الطريق من مكة إلى المدينة، لتظفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولما هم الصاحبان بالرحيل إلى المدينة جاءتهما أسماء رضي الله عنها بما يحتاجان إليه في رحلتهما من زاد وماء، وهمت بتعليقه في رحل البعير، فلم تجد رباطا، فحلت نطاقها وشقته نصفين، ربطت بأحدهما الزاد، وانتطقت بالآخر، فقال لها المصطفى صلى الله عليه وسلم «أنت ونطاقاك في الجنة».
وسميت بعد ذلك بـ «ذات النطاقين».