د. عجيل النشمي
إن من مشاكل المسلمين العظمى التي تحول دون تعاونهم والاستفادة المتبادلة بين خبراتهم وعقولهم؛ هو الخلاف السياسي بينهم؛ لأن مرجعه إلى مطامع وأهواء ومصالح دنيوية جعلت منه المقياس في التفاوض والتعاون، وما دخلت السياسة مجالا مجردا عن سياج الدين إلا خربته، وباعدت بين قلوب أهله، بل إنها تفرق الأسرة الواحدة، وتقطع الرحم بين الناس.
وأما الخلاف الفقهي فمادام خارج الأصول والأركان والمعلوم من الدين بالضرورة فإنه لا يمكن أن يكون سببا للتفرق، فإن ديننا الحنيف قد أعطى للمجتهد مساحة كبيرة في الاجتهاد، وإبداء الرأي فما كان في دائرة النصوص ظنية الدلالة فيسوغ فيه الخلاف، وإن التراث الفقهي ومدارسه إنما هي من هذا القبيل.
إن الخلاف السياسي هو المسؤول عن فرقتنا بالدرجة القصوى، وإننا المسؤولون بتمكينه، وإحلاله في الفصل والتعاون محل الدين، ولا نقلل من شأن الخلاف في غير السياسة، فالخلاف كله فرقة وشر، ولكن الخلاف السياسي مادام خارج دائرة الدين، فإنه طامة عظمى، وسبب أساسي في حال الأمة اليوم من الضنك، والضيق، والتشرذم، والتخاذل، وكما يقول الشيخ محمد أبو زهرة: «لقد كنا معشر المسلمين في غمرة، حتى صرنا وقود الحروب، نؤكل فيها ولا نأكل، وتستغل كل قوانا ولا ننتفع بشيء من أمورنا، وتستنزف كل خيراتنا، ولا ننال منها إلا النزر اليسير الذي يجود به علينا المتحكمون فينا، فأرادونا زراعا وهم الحاصدون، وأرادونا صناعا وهم المثرون، حملونا على ترك مبادئ ديننا مبدأ مبدأ، ونزعوا من قلوبنا حب الجهاد، وألقوا فيها الوهن، وحب الدنيا الضئيلة التابعة، وذلك بما كانوا يبثونه بيننا، وما يغمرون به كبراءنا، حتى صار أمر هذه الأمة بددا، وصارت القيادة فيها إلى الجهلاء بأمر دينهم».
وإن ما ينبغي أن يعلم بوضوح أن الساسة والسياسة لا يصلحهما إلا الدين، ومن يقول: لا دين في السياسة، إنما يعطي للساسة رقاب الأمة ومصيرها، فالساسة ما فتئوا ـ إلا من رحم الله ـ يقدمون مصالحهم وأمرهم على مصلحة دينهم، ويفعلون ما يحفظ مناصبهم، وإن كان على حساب الدين ومصالح العباد، ولذا لزم أن يكون الدين سياج السياسة وحافظها من الانحراف عن أهداف سياسة الناس بما يحقق مصالحهم الدنيوية والأخروية، ولذا كانت مهمة العلماء عظيمة، فهم القائمون على واجب النصيحة: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم»، وهم حملة الأمانة التي اعتذرت عن حملها السموات والأرض والجبال، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا. وهم المعنيون بمواجهة الظلم والظالمين، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر».
ولك أن تتصور عظم الجرم إذا كان حماة الدين هم حماة لظلم الساسة وانحراف السياسة، يزينون لهم آراءهم، ويفصلون لهم الفتاوى، وينمقون لهم الأقوال ويحسنونها وإن هدمت من مبادئ الشريعة حدودها، أو أهدرت المصالح المعتبرة للإسلام عامة أو خاصة. إن هؤلاء هم الظلمة أنفسهم لا أعوان الظلمة، بل قد يكون السلطان والساسة عونا لهم، لأن أصل الأمر والنهي يأتي من سبيلهم في الحلال والحرام.
فإذا علم الساسة أن سياستهم للرعية ينبغي أن تكون بسياج الدين استحقوا أجرهم ووفوا ذمتهم، وكانت عاقبتهم عند الله الرضا والقبول، ومن يعلم الساسة ذلك إلا علماء النصح والصدق. ألا إنها مسؤولية عظيمة على الساسة والعلماء، إما جمعتهم في جنة أو هوت بهم في نار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.