قد أجرى المولى سبحانه السنن المشاهدة التي لا تتبدل، وأمضى الرب تعالى الناموس الذي لا يتغير ولا يتحول، أن الاجتماع أمارة الائتلاف، وان النزاع علامة الاختلاف، ولا مطمع لأحد بتحقيق الأمن في البلاد إلا بالاجتماع والألفة التي تسود العباد.
وهما سببان عظيمان ينبغي أن يبادر إليهما الكبير قبل الصغير، وان يحرص على غرس بذرتهما بأرض المجتمع الغني قبل الفقير.
ومن تأمل ببصره السيرة العطرة وتدبر ببصيرته المسيرة النضرة، وجد ما يستنير به في ظلمات الخصام، فقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في أسباب ألفة قلوب أصحابه الكرام.
وحسبنا أن توقفنا السيرة على أسباب تأليف القلوب مع هذه القصص الثلاث، التي يحسن بنا في هذه الأيام أن نلقي لها السمع وان نسير بترجمتها سير الحاث.
القصة الأولى: في التحاور مع الآخرين؛ لمعرفة مطالبهم، والقصة الثانية: في العفو عن المخطئين؛ الذين غرر بهم، والقصة الثالثة: في عطية المحتاجين؛ ليتملك ثمرة قلوبهم.
القصة الاولى يقصها علينا أبوسعيد الخدري رضي الله عنه فيقول: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الانصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي اصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الانصار شيء، قال: فأين انت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما انا الا امرؤ من قومي، وما انا؟ قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال: فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة، قال: فجاء رجل من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال: يا معشر الانصار، ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في انفسكم؟ ألم آتكم ضُلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ واعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بل الله ورسوله امنُّ وافضل، قال: ألا تجيبونني يا معشر الانصار؟ قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المنُّ والفضل؟ قال: أما والله، لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصُدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فأغنيناك، أوجدتم في انفسكم يا معشر الانصار في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم الى اسلامكم؟ أفلا ترضون يا معشر الانصار ان يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الانصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الانصار شعبا لسلكت شعب الانصار، اللهم ارحم الانصار، وابناء الانصار، وابناء ابناء الانصار، قال: فبكى القوم، حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقنا (اخرجه احمد).
إن المتأمل في هذه القصة الاولى يدرك فائدة التحاور على المؤالف والمخالف، فالاستماع للرأي الآخر مع توجيهه بالقول اللين سبب من أسباب التآلف.
فمحاورة الآخرين شريطة ان يكتنف هذا الحوار بالعلم والادب يذهب عن النفس ثورة الغضب، ويعصم اللسان من الذم والعتب.
* الأستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية