- إن مجرد التأمل العقلي لإبداع الخالق في مخلوقاته صغرت أو كبرت يستلزم بذل جهد علمي يسّره لنا الخالق العظيم بما شاء للبشر من الإحاطة بشيء من علمه
تتباين البيوت التي تبنيها الأنعام والبشر في قوتها وضعفها، والأمثلة لا تحصى، لكن بيت العنكبوت هو أكثرها وهناً، يضرب الله به مثلا باعتباره ملجأ واهيا لمن أراد من «البشر» أن يتخذ أولياء من دون الله.
هذا ما نقرؤه في الآية 41 من سورة العنكبوت: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} (29/41)
وبغرض التأكيد القاطع على أهمية إعمال التدبر العقلي والتفكر العلمي في كثير من آيات الله، وآية العنكبوت واحدة منها، تنتهي الآية بشرط ينبغي تحققه لإدراك المدلول الكامل لموضوع الآية - وهي العنكبوت...{لو كانوا يعلمون..}
بل إننا ما نلبث أن نقرأ في الآية 43 من السورة نفسها في إشارة واضحة إلى مثل العنكبوت: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} (29/43)
وهكذا.. بالنظر إلى الطبيعة العلمية الخاصة لمثل العنكبوت فإنه لن يدرك المعنى الكامل لهذا المثل إلا من يستطيع أن يستخدم ما منحه الله له من ملكات التعقل والتعلم لفهمه، وما أتاحه لنا سبحانه من علوم اليوم لتمكيننا من تقدير قوة وقيمة هذا المثل.
(فالعالمون) سيعرفون لم يرد فعل «اتخذ» في صيغة المؤنث {اتخذت} بما يعني أن العنكبوت «أنثى» ومذكرها عنكب.. والعالمون سيعلمون الكيفية التي تبني بها العنكبوت مسكنها.
ما هذه الحشرة؟
٭ لعله من المفيد قبل الإجابة عن السؤال معرفة بعض المعلومات عن الحشرة المذكورة في الآية الكريمة..
يتفق علماء الحشرات Entomologist وبخاصة علماء العناكب Arachnologists على أنه اعتبارا من نوفمبر من عام 2015 فقد اعتمد علماء تصنيف الكائنات Taxonomists (من نبات وحيوان وكائنات دقيقة) رصد وتسجيل 113 «عائلة» من العناكب تنقسم إلى 45.700 نوع، وفق الترتيب المعتمد في علم الأحياء.
وتشارك العناكب، كغيرها من الكائنات، في الحفاظ على التوازن البيئي فوق كوكبنا، ففي العالم اليوم هناك 25 مليون طن من العناكب تقتل بين 400 و800 مليون طن من الفرائس كل عام! ومعظم فرائسها من الحشرات فيما عدا بعض أنواع كبيرة منها قد تقتل طائرا صغيرا أو سحلية.
وعائلات العناكب نشطة على كوكب الأرض منذ نحو 300 مليون عام. وقد ظهرت المجموعات الرئيسة للعناكب الحالية قبل 200 مليون عام. أما العناكب نساجة الحرير Orb Weaver فهي تعيش بيننا منذ 100 مليون عام.
والآن..كيف تنتج العنكبوت الحرير؟
٭ يحاول علماء العناكب اليوم فك أسرار خطة العمل الخارقة المسجلة على الخلايا العصبية للعنكبوت والتي تسمح لها بتكوين نسيج ذي طبيعة هندسية كاملة.
لبناء بيتها واصطياد فرائسها تفرز أنثى العنكبوت الحرير من ثلاثة أزواج من الغدد النساجة Spinneret Glands متصلة بثقب في منطقة البطن. وتنتج كل غدة خيطا حريريا لغرض معين، فهذا خيط تستخدمه العنكبوت كحبل أمان وهي تتنقل لتنسج خيوط شبكتها، وذاك خيط حريري مغموس بمادة لزجة لاصطياد الحشرات الفضولية المارة بقربها. أما هذا الخيط فهو مخصص للف الفريسة وتكفينها بعد إصابتها بشلل ناتج عن بث شيء من سمها في بدن الفريسة.
أما الحرير فهو مادة بروتينية مغذية تقتات به العنكبوت، إذا قل الرزق وأصابها الوهن، فتأكله ويعاد تدويره في معدتها فتقوى فيعاد إفرازه من جديد.
ما صفات هذا «الإفراز الحريري» المكون لبيت العنكبوت؟
٭ يتميز بصفات القوة والمرونة والخفة بل إنه يتفوق في متانته على كثير من المواد المركبة في صناعة النسيج. وقد اكتشف علماء العناكب أن معامل قوة التوتر Tensile Strength في خيوط شبكة العنكبوت يفوق مثيله في مادة الصلب! ومن المحتمل وفقا لتجارب حديثة أن يتم إدخال حرير العنكبوت في استخدامات صناعية خاصة مثل القمصان المضادة للرصاص!
قوة مادية من كائن ضعيف!
٭ إن هذه المعلومات وحدها كفيلة بأن تجعل القارئ المتدبر لكتاب الله يستذكر على الفور الآية 74 من سورة الحج: {ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز} (22/74)
حقا كيف لا يعظم المتدبر الله حق تعظيمه وكيف لا يقدره سبحانه حق قدره وقد علم ما علم؟!
٭ لقد سبقتها آية دالة على إعجاز إلهي في خلق كائن ضئيل أيضا، شقيق وقريب لعائلات العناكب، وهو الذباب: { يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} (22/73)
إن مجرد التأمل العقلي لإبداع الخالق في مخلوقاته، صغرت أم كبرت، يستلزم بذل جهد علمي يسره لنا الخالق العظيم بما شاء للبشر من الإحاطة بشيء من علمه.
الذباب ضعيف والعنكبوت ضعيفة ومن يطلب ما سلبه الذباب منه من البشر ضعيف ثالثا...إن الله لقوي عزيز...
وكذلك من يطلب العزة والولاية من غير الله كمن اتخذ من بيت العنكبوت بيتا.. فبيت العنكبوت واهن ضعيف «من منظور البشر» حتما. فبضربة أصبع يمكن لطفل أن يحطم بيت العنكبوت على الرغم من قوة نسيجه التي لم يفلح البشر إلى اليوم في محاكاة دقته.
إنها الأنثى!
٭ كما هو الحال في المملكة الحيوانية بكل عائلاتها وأنواعها وعبر الملايين من السنين فإن الإناث هن اللاتي يحفظن النوع ويدافعن عن العائلة.
لقد اتفق علماء العناكب على أن الأنثى، في الغالبية الساحقة من أنواع العناكب، هي التي تفرز الحرير لأغراض متعددة، وتنسج البيت وفق نظام هندسي معقد. هي التي تنجب بالطبع، ولكنها هي التي تصون البيت، وهي التي تصطاد فرائسها كطعام لازم لحياتها وحياة صغارها. وهي التي تحمي البيض وتربي الصغار وتدافع عنهم إلى حد مقاتلة الذكور الهائمة بحثا عن أنثى، أي أنثى، وعن أي طعام، فهذا شغل الذكور الوحيد، ولذا يحاولون أكل الصغار، حتى صغارهم، سواء كانوا بيضا أم عناكب صغيرة.
من هنا كان ذكر القرآن للعنكبوت بصيغة المفرد المؤنث وحدها، لأنها هي الأم النساجة الحامية والمربية وسبب استمرار النوع.