أ ـ يطلق جمع القرآن على معنيين:
1 ـ المعنى الأول: جمعه بمعنى الحفظ في الصدور، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} ـ القيامة: 16-17).
2 ـ المعنى الثاني: جمع القرآن بمعنى كتابته في السطور، أي الصحائف التي تضم السورة والآيات جميعها.
ب ـ مراحل الجمع:
المرحلة الأولى: الجمع الأول في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
1 ـ حفظه في الصدور: حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن عن ظهر قلب لا يفتر لاسيما في الليل، حتى إنه ليقرأ في الركعة الواحدة العديد من السور الطوال. ولزيادة التثبيت كان جبريل يعارضه بالقرآن كذلك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن.
وقال أبو هريرة: كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه.
حفظ الصحابة للقرآن الكريم
توافرت للصحابة العوامل التي تجعلهم قادرين على حفظ القرآن وتسهل عليهم هذه المهمة ومن تلك العوامل:
1 ـ قوة ذاكرتهم الفذة التي عرفوا بها واشتهروا، حتى كان الواحد منهم يحفظ القصيدة من الشعر بالسمعة الواحدة.
2 ـ نزول القرآن منجما.
3 ـ لزوم قراءة شيء من القرآن في الصلاة.
4 ـ وجوب العمل بالقرآن، فقد كان هو ينبوع عقيدتهم وعبادتهم، ووعظهم وتذكيرهم.
5 ـ حض النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن، والترغيب بما أعد للقارئ من الثواب والأجر العظيم.
6 ـ تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بتعليم القرآن: فكان الصحابة تلامذة للنبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون منه القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شيخهم، يتعاهدهم بتعليم القرآن، فإذا أسلم أهل أفق أو قبيله أرسل إليهم من القراء من يعلمهم القرآن، وإن كان في المدينة ضمه إلى حلق التعليم في جامعة القرآن النبوية.
1 ـ حفظه في السطور:
وهو لون من الحفظ يدوم مع الزمان، لا يذهب بذهاب الإنسان، فلا بد أن يتحقق ما تكفل الله بحفظه {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ـ الحجر: 9).
لقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن عناية بالغة جدا، فكان كلما نزل عليه شيء منه دعا الكتاب منهم: علي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان ـ فأملاه عليهم، فكتبوه على ما يجدونه من أدوات الكتابة حينئذ مثل: الرقاع، اللخاف، والأكتاف، والعسب. وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم جهد هؤلاء الكتاب في كتابة القرآن فمنع من كتابة غيره إلا في ظروف خاصة أو لبعض أناس مخصوصين.
فتحقق بذلك توافر طاقة كبيرة لكتابة القرآن وترتيبه، كما أخرج الحاكم عن أنس رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع»، ومقصود هذا الحديث فيما يظهر أن المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم.
المرحلة الثانية: الجمع الثاني في عهد سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه - فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن- قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح به صدر أبي بكر وعمر.
فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، ولم أجدها مع غيره {لقد جاءكم رسول..} ـ التوبة: 128 و129). حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم.
وبهذا جمعت نسخة المصحف بأدق توثق ومحافظة، وأودعت لدى الخليفة لتكون إماما تواجه الأمة به ما يحدث في المستقبل، ولم يبق الأمر موكلا إلى النسخ التي بين أيدي كتاب الوحي، أو إلى حفظ الحفاظ وحدهم.
وقد اعتمد الصحابة كلهم وبالإجماع القطعي هذا العمل وهذا المصحف الذي جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وتتابع عليه الخلفاء الراشدون كلهم والمسلمون كلهم من بعده، وسجلوها لأبي بكر الصديق منقبة فاضلة عظيمة من مناقبه وفضائله. وحسبنا في ذلك ما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله.