بعد أن بين لنا الله عز وجل آداب الاستئذان وآداب اللباس، بيّن لنا حتى آداب الأكل، وكان الصحابة ورعهم عجيبا، لما قال الله عز وجل (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)، قال الصحابة ان أغلى الأموال الطعام، فمنهم من قال لا نريد ان نأكل طعام اخينا حتى لا نأكل اجود ما عنده، او قد نكثر في الأكل ونسرف في الأكل فنذهب بأطيب ماله، فتحرجوا وهكذا كانوا هم رضي الله عنهم، واختلف المفسرون في تفسير قول الله عز وجل (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم)، لماذا خص الله عز وجل هذه الفئات الثلاث الأعمى والأعرج والمريض؟ ذكر ابن العربي فيها تقريبا ثمانية اقسام، لكن الذي يظهر هنا الذي اختاره شيخنا ابن كثير، يقول هؤلاء قعدوا عن الجهاد، الصحابي الذي ذهب للجهاد خلف بيته عند المريض او القاعد الذي قعد عن الجهاد، فهؤلاء المرضى والذي منهم الاعمى والاعرج تحرجوا ان يأكلوا مما عندهم من بيوت الصحابة، كانوا كأنهم ضامنون ووكلاء على البيوت، او قد يدخل يتحرى على احوال المرأة في البيت والاطفال وكذا، فتأتيه المرأة ببعض من الطعام فيتحرج ان يأكل منه، كأنه يقول هذا مال الصحابي الغائب انا لا آكل منه.
لطائف
ومن اللطائف ايضا في تفسير هذه الآية ان الصحابة انفسهم كانوا يتحرجون ان يأكلوا مع الأعمى والأعرج والمريض في صحن واحد، لماذا؟ لأنهم يقولون الصحابي يقول انا ارى اللقمة الطيبة هو لا يراها، فأفضل نفسي باللقمة وهو لا يراها هذا الأعمى، فكيف آكل معه فأكون قد اكلت أطيب الطعام؟ هذا هو الرقي والاحساس العالي وتقوى الله، وكذلك كانوا يقولون على الاعرج اذا جلس، كانوا يجلسون على الارض، فاذا جلس لا يرتاح في جلسته، فقد لا يستطيع تناول ما اتناوله، وكذلك المريض لضعف ألمّ به لا يقوى على ما اقوى عليه، فهؤلاء الصحابة من تقواهم لله عز وجل خافوا حتى ان يأكلوا مع هؤلاء حتى لا يضيعوا حقوقهم، لما رقت هذه النفوس سبحان الله نهضت الأمة وترقّت، لأن المحاسبة كانت ذاتية، يقول الله عز وجل (هؤلاء...)، يقول فكرهوا ان يؤاكلوهم لئلا يظلموهم، قال ابن كثير فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك، ومنهم ايضا بالعكس، الاشياء بنقائضها، ومنهم من كان يأنف ان يأكل مع الأعمى، فالأعمى يده قد تطيش في الصفحة.
أين الأبناء؟
قال الله عز وجل (ولا على أنفسكم ان تأكلوا من بيوتكم او بيوت آبائكم او بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم)، إذن اين الابناء؟ لم يذكرهم الله عز وجل، الله سبحانه وتعالى يقول هذه بيوتكم قوله عز وجل (بيوتكم) فيها ضمنا بيوت ابنائكم، استدل العلماء بهذه الآية ان مال الولد بمنزلة مال أبيه، وقد جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنت ومالك لأبيك»، وهذا من كرامة الوالدين في الاسلام، وعند الله عز وجل، وقال عز وجل يأتي التسلسل، بيوتكم، بيوت آبائكم، امهاتكم، اخوانكم، اخواتكم (أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه)، يعني ما كنتم ضامنين عليه او وكيلين عليه، وهذا امر ما زال الى يومنا هذا، قد تسافر الجارة وتعطي مفاتيح بيتها الى جارتها، وان لم تكن صديقتها ولكنها جارتها فتأتمنها على بيتها، فهذه المؤتمنة اذا دخلت البيت ورأت حاجة لشيء من غير ان تضيع حق الناس لا حرج ان تأكل منه وتشرب من الماء او تأكل من التمرة لا شيء عليها.
عظم الصداقة
قال عز وجل (أو صديقكم)، هذه لفتة قرآنية جميلة في عظم الصداقة، ومكانة الصداقة في الاسلام، وهذه المكانة مكانة عالية، فصديقكم اصلا الصادق في المودة، ومن هنا جاءت (صديقكم)، حتى ان الله عز وجل رتب على هذه الصداقة والمحبة في الله اجر ما ناله الشهداء والاتقياء، قال: المتحابون في جلالي على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم فيها الشهداء، وهذه مرتبة عظيمة، الله عز وجل قال (أو صديقكم)، يعني هذا صديقكم او اصحابكم لا جناح عليكم في الاكل من بيوتهم، قال (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا)، الآن في آداب الطعام، فمن العرب من كان يرفض ان يأكل منفردا وحده، كان يقول دوما لأهله اذهبوا وابحثوا لنا عن ضيف حتى نأكل، وهذا من كرم العرب، ومن شيمهم، وفي هذا اشتهر بنوا كنانة، بنو كنانة لا يأكلون ابدا منفردين، الا معهم احد، وإلا لا يأكلون، فكانوا يشقون على انفسهم، من الكرم، وهناك من يرى ان يأكل وحده ولا يأكل مع الجماعة، فالله عز وجل وسع لنا في هذا الأمر، فهذه رخصة من الله عز وجل ان نأكل جميعا او اشتاتا، يعني اما فرادى او متجمعين، لكن هذه رخصة من الله عز وجل في ان يأكل الرجل وحده وليس مع الجماعة، وان كان الأكل مع الجماعة افضل وابرك كما روى الإمام احمد ان رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم «إنا نأكل ولا نشبع، قال صلى الله عليه وسلم فلعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله».
الاجتماع في حد ذاته ليس هو محل البركة، ولكن الاجتماع على ذكر الله عز وجل هو محل البركة، قال واذكروا اسم الله يبارك لكم، في التسمية، التسمية والاجتماع وبالتسمية يبارك الله عز وجل في الأكل بإذن الله.