- تتعمق في الذات لتكتشف النفس العربية كما لو لم تكتشف بعد
- من أين يأتي الشعر: سؤال يشبه السير على طرق مرصوفة بالأزرق لاكتشاف السماء
- الناس يهدرون طفولتهم في الطريق إلى الخبز والحرية أما الشعراء فتظل طفولتهم منبعاً للحكمة
- كل الشعراء الكبار بدأوا بالقصيدة العمودية وبالقواعد قبل أن يتمردوا عليها
-
- الكتاب لقاءات مطولة بين فضاء الإنترنت وفضاء الشاعرة
«سين» الكتاب الجديد للشاعرة الكبيرة والأديبة المميزة سعدية مفرح، و«سين» هذا هو السؤال كما هو متعارف عليه في أوراق الامتحانات لتكون الـ «ج» جوابا، وكتاب سعدية هو مجرد «سين» أن الجواب يتحدد تلقائيا من خلال فيض الشاعرة.
السبت الماضي كان موعدا لحفل توقيع كتاب «سين»، في مكتبة آفاق طبعا دون أسئلة أي دون ان يكون «سين» حاضرا، فسعدية لا تحب السؤال كثيرا إلا إذا كان همسا أو من وراء شاشة وأسلاك، ويختصر كتاب «سين» وإطلالة سعدية مفرح الجديدة إطلالات الشعراء العرب المحدثين والمتجددين بسرعة الضوء ومن بين ركام الثورات العربية، والانتفاضات الشارعية أو «الشوارعية»، لا فرق، يطل علينا الشعر أكثر أصالة، لأنه أكثر إغراقا في الذاتية وفي كشف مكنونات النفس العربية التي لم تستكشفها 1500 عام من البحث والتقصي في دهاليزها بين المطلق والنسبي وبين الظاهر والمنسي ليعود الشعراء في كل عصر وفي كل جيل وفي كل عام، ولعله في كل يوم يسألون من أين ينبع الشعر وكيف يجيء في محاولات يائسة لإعادة اختراع العجلة على أساس أكثر دقة ولإعادة تعريف الماء بلغة أكثر عمقا ولإعادة البحث عن طريق السماء بطرق مرصوفة بحجارة زرقاء هذه المرة تتناسب مع شعار الأمم المتحدة وحقوق الإنسان.
وتسأل الشاعرة الكبيرة عن الندم لتكتشف ان الندم يرتبط باللافعل في رؤية أخاذة، ثم تنزلق بسرعة الى الطفولة التي أصبحت منذ ترجم فرويد «معجم» الشعراء العرب وبسبب وبغير سبب، فكان للشعراء فقط طفولة، أما البشر الآخرون فهم مثل السلاحف يولدون مكتملين، ولكن صغار الحجم فقط ويهدرون نفوسهم في الطريق الى الخبز والحرية، أما الشاعر فله طفولتان: الأولى بشرية تشبه حكمة الأنبياء يضعها في «الثلاجة» لتبقى طازجة ويتناول القليل منها يوميا قبل النوم لئلا يصاب بالشيخوخة المبكرة، والطفولة الثانية: طفولة قصيدته التي بدأها كل الشعراء عمودية سواء أتقنوا العروض أم لا، فكلهم بدأوا في سلك «الشرطة» قبل أن يتحولوا الى نشطاء من أجل الحرية ثم ليصلوا الى مرحلة تأسيس «أحزاب» أو بالأحرى «مدارس» أدبية لا يرتادها أحد.
المشاريع كلها مؤجلة
أما المشاريع فكلها مؤجلة كما تقول.. لماذا؟ ببساطة لأن الوقت ضيق فمنذ أصبح اليوم 24 ساعة فقط، كف الشعراء العظام وكبار الفنانين عن الإنجاز واكتفوا بالحلم.
نقرأ من كتاب «سين» ما يلي:
تنفتح الذاكرة على ذاكرتها الأولى، على وجودها الأول، فنكتشف كم هي حنون رياح الظنون وهي تهب باتجاه ماض لا يريد ان يختفي، ربما لأنه لم يعد كائنا حقيقيا، وربما لأن غيره لم يستطع أن يحتل تلك المساحة الغامضة المفروشة بتلك الظنون وبتداعياتها المتواترة، وربما لأنه من القسوة ما يجعله يؤثث لوجوده تاريخا جديدا كل لحظة جديدة.. ربما.
لكنه القلب..
وحده القادر على ان يحل محل الذاكرة دون أن يلغيها..
وهو الشعر..
وحده القادر على تفسيرها بشكل لا يؤذي أحدا.. فلا يجرح شجرة ولا يستفز بحرا.. ولا يستغيب سماء، وبالتالي لا يؤذي تلك الجغرافيا الذاهلة باتجاه تحققنا في مبتداه ومنتهاه مسيجة بالطفولة والتي يحلو لنا، كلما اغرورقت عيوننا بالدموع المبهمة، ان نسميها الوطن.
اراوح بين الذاكرة والقلب
أما أنا فمازلت أراوح بين الذاكرة والقلب، وفي محيط تلك الأيام التي اختفت تواريخها، وانمحت في خضم الزمن الجديد، رغم انها الماضي والأيام التي مازالت تقترح تواريخها المستمرة بحجة انها الحاضر.
وحده الشاعر يستطيع إعادة رسم الأشياء وتلوين الملامح المرسومة بالأبيض والأسود.
وحده القادر على ملء فراغات الروح بموسيقى تشبه الموسيقى التصويرية التي يردم بها مخرجو الافلام فجوات السيناريوهات الرديئة بما يمكن ان يكون حياة اخرى، حياة موازية للحياة الحقيقية، حياة افتراضية، لكن لابد منها، على الرغم من انها غير موجودة الا على شاشات السينما في واقعها المظلم، او بين اطارات الصور المعلقة على جدران الروح.
حسنا، ستكون الفكرة اكثر وضوحا عندما تندغم بذلك البيت العجيب الذي قاله الشاعر المجنون وهو يدفع هوى ليلى وليل الهوى:
فما اشرف الايفاع الا صبابة
ولا انشد الاشعار الا تداويا
حكمة الجنون
كأنه يلخص حكمة الجنون كلها بتحديده العقلاني لجنون الشعر والفن والحياة في بيت جميل قاله وكأنه يحاول ان يدفع تهمة الشعر بالمزيد منه، وكأنه يحاول ان يدفع مظنة السمو بالاصرار عليها، فهو لا يشرف الايفاع، ولا يصعد الذرا الا صبابة او ربما دفعا لتبعات تلك الصبابة في روحه وجسده وما بينهما، وهو لا ينشد الاشعار الا تداويا، فليس الشعر دواء جاهزا يتناوله من بحاجة اليه لحظة يريد، لكنه تداو يضطر معه المتداوي للممارسة المستمرة، وبين التداوي والدواء ما بين الشعر واللاشعر، وما المجنون الا شاعر، ذهب نحو المدى الاقصى في بحثه عن سر الشعر الخبيء، وسر الصبابة الموحش، وسر الجنون الذي يذهب بالعقل لكنه لا يذهب بالروح، والاهم انه لا يذهب بموسيقاه التصويرية، لا يذهب بالشعر.
ها هي الفكرة تحت ظلال البيت المجنون تبدو اكثر وضوحا او لعلها اكثر غموضا.
لكنها على اي حال تظل صالحة لتبرير ذلك القرار العجيب، ان اكون شاعرة، والذي كان اول قراراتي الشخصية الواعية في خضم تلك الطفولة المروعة.
الشاعرة الطفلة
لا ادعي انني كنت اعرف تلك الوظيفة الجميلة التي يقترحها المجنون للشعر عندما قررت ان اكون شاعرة رغم انني لم اكن اتجاوز الثانية عشرة من عمري، طفلة صغيرة وحيدة تعيش في اسرة ذكورية بامتياز، فيفرض عليها ان تفتش لنفسها عن دور ذكوري يتلاءم مع الصورة العامة المرسومة بدقة ووعي وتصميم لهذه الاسرة الصغيرة، ومع الصورة الخاصة المرسومة لها بقسوة مذهلة والمفروضة عليها، في ملابسها، وقصة شعرها، والعابها ـ ان وجدت ـ وفي قراءاتها المبكرة، وفي صداقاتها الطفولية المعدومة الا قليلا، وفي المسحة الجغرافية التي ينبغي ان تتحرك في حدودها، حيث غرفة واحدة بنافذة وحيدة هي كل تلك الجغرافيا، لكن للطفولة مباهجها السحرية رغم كل شيء، ولم يكن لمباهجي المبكرة عنان الا القراءة، قراءة كل شيء، كل ما تقع عليه عيناي المندهشتان من قسوة العالم ووحشته وبرودة شوارعه الترابية التي تؤدي دائما وسريعا الى جنة بيتنا الصغير، حيث غرفتنا الواحدة بنافذتها الوحيدة، اقرأ، واقرأ، واقرأ، فيقودني سحر القراءة الى سحر النص الديني، وبدوره يقودني الى خير ما يمكن ان اقرأه في حدائق القراءة المفتوحة، حيث اشجار الشعر هي الدهشة المتناسلة من بعضها البعض.
فلماذا لا اكون شاعرة اذن؟
لماذا لا احقق للآخرين دهشة اضافية فيما بدا لي سهلا وانيقا وغير مكلف في الوقت ذاته؟
ولماذا لا أداوي علل الروح بهذا الشيء الذي يسمونه الشعر وكأنهم يشيرون للحياة في واحدة من اجمل اسمائها؟
أصير شاعرة إذن، استدراجا لمباهج الشعر واستفادة من وظيفته الخالدة.. صبابة وتداو، ولكنني أكتشف ذلك الآن، اكتشفه وأنا أحاول أن أحصي خسائر العمر الكثيرة ومباهجه المدوية في الفراغ الكبير.. الفراغ الأبيض، حيث الأبيض كفن الروح وبشارة الحياة، فاكتشف أي فضاء بهي وموحش ألقيت رحلي فيه منذ ذلك التاريخ الموغل في القدم والوحشة واليتم والفضول. وفي تلك المهمة الجديدة التي صارت هوايتي المفضلة إذ أمارس تفاصيلها بين جدران غرفتي ـ التي أصبحت امتلكها الآن وحدي ـ والمزدحمة بكل عالمي، والمتوحدة في ومعي كأنها أنا وكأنني هي بجدرانها البيضاء، وبرف الكتب المتكاثرة لكي تحتل المساحة الأكبر، وبخزانة الملابس التي أكرهها، دائما أكرهها، وبين جدران روحي الأكثر ازدحاما.. في تلك المهمة أجد الكثير مما يمكن أن يعللني ويهدهد روحي، ويداوي أوجاعي النابتة على شواطئ اليتم المبكر، حيث الأب هو الغياب الأول، الغياب الذي يؤكد حضوره في وجوده، ليكون سببا لهذا الوجود ومبررا له في كثير من الأحيان، الغياب الذي لم أعرف سببه ولا كنهه، ولم أحاول أن أضعه في إطار ما، الغياب الذي يحضر كلما حققت نجاحا صغيرا أو كبيرا في حياتي دون أن أجد من يضع هذا النجاح في صورة معتادة من الفرح العائلي، الغياب الكبير إذن. الغياب الذي تحقق بعد ذلك قصيدة قصيرة ولكنها أثيرة.. استعرت فيها ثياب الكترا، بعض ثيابها لأقوال ما لا ينبغي أن يقال.. لأقول شيئا عن:
هذا الوجود الملتبس،
حيث تختلط تهاويم الحقيقة بعذوبة الخرافة
والقصيدة المتوقعة بذكريات مبالغ في تفاصيلها البطولية،
وحيث...
صورة فوتوغرافية وحيدة
أقف أمامها كمرآة
كلما توالدت الأسئلة المخبأة
وتسللت نحوي
من ثقوب الحكايات العائلية المبتورة بالضرورة.
لكن الشعر كان يستطيع أيضا، لحسن الحظ، أن يهدي نرجسيتي الكثير من التبريرات المعقولة، والأسباب شبه المنطقية لركام من الفشل الكثير.. الفشل الطويل.. الفشل المفروض بقوته الذاتية والذي استشعره عنوانا لسيرة ذاتية قصيرة قد يبدو الندم واحدا من عناوينها الفرعية.
منطق جيد ومريح
الندم..
ولكن المرء يندم على ما لم يفعله مما كان ينبغي عليه فعله، وحيث مساحة الندم تتحدد دائما بقدرة هذا المرء أو عدم قدرته على الفعل المطلوب تحقيقه، المرء إذن لا يندم على عدم تحقيقه ما كان ينبغي عليه تحقيقه إن لم يكن لحظتئذ قادرا على فعل التحقيق. وهذا، كما يبدو لي الآن، منطق جيد ومريح وعلي دائما اللجوء إليه لتبرير لحظات الفشل الكثيرة التي مرت بي وصارت دائما عنوانا لحياتي غير المعلنة، ولعل أبرزها وأولها في الترتيب من حيث الأهمية ومن حيث التأريخ الزمني أيضا لحظات الطفولة الملتبسة في دلالاتها التي تتجاوز كونها الخطوة الأولى في مسيرة تاريخي النفسي لتصير في الواقع هي تاريخي النفسي كله.
لماذا؟
تتعدد احتمالات الإجابة وتصير أحيانا إجابة واحدة لهذا السؤال المتعدد، والذي يمكن تجاوزه نحو القول إن الإبداع قيمة حققت لي الكثير من اللحظات المضيئة إلى حد ما مقابل الانطفاءات الكثيرة الأخرى، لذلك كنت اقول قبل قليل انني اخترت، وفي فترة مبكرة جدا من حياتي أن اكون شاعرة، اعرف ان الامور التي تتعلق بالشأن الإبداعي لا يمكن الحديث عنها بهذا التحديد الدقيق ولا بهذا الشكل من التأريخ الزمني، أعرف أيضا ان الحديث عن الموهبة هو الانسب بدلا من الحديث عن اختيار واع للمبدع لأن يكون مبدعا، ولكني أعرف أيضا أن هذا بشكل شبه دقيق هو ما حدث معي، كنت أريد أن أكون شاعرة، ثم أنني قررت أن أكون كذلك، ويبدو أنني أصبحت، رغم أنني مازلت في كثير من اللحظات أشك بالفعل أنني شاعرة حقيقية، ينتابني هذا الإحساس بالتحديد كلما انتهيت من كتابة قصيدة جديدة، في تلك اللحظة يكون شعوري ملتبسا بشكل يصعب معه تحديد هويته، فرح حقيقي بإنجاز هو دائما أو هكذا أتصوره الأخطر في حياتي على مختلف صعدها، وفي ذات اللحظة حزن ما من النهاية، أنا اكره النهايات دائما، اكره ان اصل في قراءاتي أو مشاهداتي الى نهاية الرواية التي اقرأها او الفيلم الذي أشاهده مثلا، والحزن يجيء ايضا من خشية عميقة وحقيقية صرت في الآونة الاخيرة أرصدها مع نهاية كل قصيدة انتهى من كتابتها، أخاف أن تكون هذه هي القصيدة الأخيرة في حياتي يعذبني السؤال القديم:
كيف يجيء الشعر؟
من أين وكيف يجيء الشعر؟
ومنه تتفرع الاسئلة الصغيرة الأخرى:
كيف يتوصل هذا الحرون الأليف الى مداخلنا السرية ليقيم فيها الى ابد العلاقة به؟
ما الذي يجعلنا نتربص بلغته حالمين بهتك الاسرار الموحية بها والراصدة لها والداعية إليها؟
من أين يجيء الشعر ان لم يختزل في شهقاته السرية بعضا من شهقاتنا الأولى وخطواتنا الأولى ورغباتنا الأولى؟
كيف له أن يصل إلينا ونصل إليه إن لم تدل عليه تلك الاصابع السحرية بوصلة للمزيد من الحياة وللمزيد من الموت؟
كيف يمكن عبور البرزخ المؤدي الى جنة الشعر ان لم ننكو بناره على هامش من ألق وقلق وخيارات وبيانات ومواهب وانحسارات واندهاشات لها لذة الألم وألم اللذة وأشياء أخرى لا تسمى؟
كيف للشعراء أن يقيموا علاقاتهم السرية مع القصيدة من دون بئر أولى يمكنهم ان يمتحوا منها ارتواءاتهم غير المتوقعة وانذهالاتهم غير الأكيدة وقوفا طليلا على حافة البئر القديمة؟
كيف للبئر القديمة أن تنتشي بمياهها الجديدة؟
كيف للمياه أن تسيل خيوطا ممتدة ما بين الشك واليقين مجللة بالمفاجأة ومكللة بغار الجماهير الصاخبة؟
كيف لشاعر أن يقول شعرا جميلا؟
كيف لقصيدة ان تجيء هكذا.. بقلق.. بفرح.. بوجع.. بعنف.. باطمئنان؟
كيف لها أن تعلن موتها النهائي بتحققها النهائي في قصيدة حية قادرة عبر موتها، حيث تموت الأشياء بالسكون، على متابعة الحياة، حيث يبقى الشعر عندما يموت الشاعر؟
نعود للسؤال الأول إذن:
مسحورة بالشعر وعوالمه
من أين وكيف يجيء الشعر؟
ولأنني فشلت دائما في الإجابة عن هذا السؤال الذي عذبتني سهولته المراوغة بقدر ما أهانت صعوبته المراوغة أيضا قدرتي التي كانت اتوهمها على معرفة ذاتي بشكل معقول الى حد ما، فقد استبدلت هذا الفشل بذلك الخوف، وصارت الأمور أقل احباطا، فالشعر الذي اخترت أن اتعاطاه قراءة وتلقيا وانتاجا نصيا، نجح تماما في تخليصي من عقدي الشخصية التي كنت أتوقع أن اختفي تحت لفائفها القديمة، نجح السيد الشعر في مصالحتي مع نفسي ونجح في أن يصير الرهان الأجمل والأكبر في حياتي كلها، رغم أنه الراهن الأول، ولعله الاخير، حيث لم استسغ أي تجل آخر من تجليات الكتابة الابداعية كممارسة ذاتية، كنت مسحورة بالشعر وعوالمه، وأحب كلمته في كل تجلياتها، أشعر ان الشعر هو ارقى فنون القول وأعلاها مكانة، ربما لأنني أكره تفاصيل الحكي ومنمنماته الصغيرة، وأحب بلاغة الشعر الموجزة. أحب موسيقاه وعذوبته.. وأحب قوته ايضا.. احب سر دهشته وادهاشه.. وأحب كلمته الأولى وكلمته الأخيرة.. لكن هذا لا يعني انني لا اتواصل مع التجليات الأخرى مثلا، فأنا أعتبر نفسي قارئة نهمة للرواية وللقصة القصيرة ايضا، واكثر مراجعاتي النقدية تنصب عليها، احب ايضا قراءة نماذج متطورة لكتابة السيرة الذاتية، يسحرني سر الحكي الذاتي، وأنساق وراء الآخرين وهم يروون رواياتهم الشخصية
وكان الشعر وحده روايتي الشخصية.
لقد تحررت به ـ ولا أعني الشعر الذي أكتبه أنا فقط بل كل تجربة شعرية جميلة تعاطيت معها بالقراءة أيضا ـ أقول انني تحررت بمطلق الشعر من أشياء كثيرة مزعجة.. من الجهل والخوف والحاجة والدونية.
ولأن الشعر هو أصلا وبالضرورة فعل مضاد، فقد كان من السهل، أو على الأقل من غير الصعب، على ممارسة الفعل المضاد من خلاله والاحتماء به ورسمه رحلة نهائية.
وكان لابد من الاستعداد زاد للرحلة ودفعا لوحشة الطريق.
الكتب التراثية
بدأت بقراءة الكتب التراثية القديمة منذ مرحلة مبكرة جدا، قرأت كتب الجاحظ وانا في العاشرة من عمري، وقرأت مقدمة ابن خلدون وانا دون الثالثة عشرة، وقرأت الكثير من قصص الف ليل وليلة وانا في تلك السن، اما المتنبي فكان اولى عذاباتي اللذيذة في عالم الشعر. كان هو الاول وهو الاخير، في كل قصيدة اقرؤها له يستوي امامي بشرا سويا، انساق وراء طموحاته في السلطة والشعر وما بينهما من تفاصيل كونت مجده الشعري المستحيل، وربما البداية التراثية هي التي هيأت روحي للانطلاق بعد ذلك بسنوات قليلة لكي تحلق بأجنحة الحداثة في اقصى اشتراطاتها واقساها ايضا، لم اعد اطيق اي قيود يمكن ان تحبس قصيدتي في اطارها، وصار همي ان اخلص قصيدتي من زوائد الافتعال وشوائب الامس، كنت اريد ان اكون ذاتي دون ان ابدأ من الصفر، وكلما قرأت تجربة شعرية جديدة تتوق روحي لان تنقلب على نفسها، وتتجاوز مألوفاتها والسائد في محيطه، لا ادري ان كنت نجحت ام لا، بل لعلي اقرب الى التصديق بأنني لم انجح الا قليلا في تحقيق الخطوة الاولى من حلم الانطلاق بأنني لم انجح الا قليلا في تحقيق الخطوة الاولى من حلم الانطلاق والخلق الشعري. لكن من يدري فالسماء البعيدة تبدو من الشفافية احيانا ما يجعلني امد يدي اكاد المسها. على الرغم من ان هذا كله لا يكفي لصنع شاعر او ربع شاعر ما لم يكن مهيأ لذلك بطبيعته، ولهذا استطيع ان اقول انه وبشكل عام ليس في الامر عوامل اختيار محددة لمرجعيات معينة، فلحظة الشعر لحظة ملتبسة وغامضة ورغم ما قلناه ونقوله عنها فهو قول ناقص ان افترضنا انه حقيقي.
ولكني بالمقابل استطيع ان اتحدث عن محرضاتي الشعرية، وغالبا ما تكون القراءة هي اولى هذه المحرضات، القراءة تنبش من دواخلي كل الاسئلة المعلقة وتستفز كل علامات الاستفهام، وليس مثل الشعر شيء قادر على اعادة التوازن واقتراح الاجابات ولو بخلق المزيد من الاسئلة.
كما ان المرض بالنسبة لي محرض كبير وعظيم على الشعر، المرض ضعف اكرهه بشكل مرضي! واكتشفت انني بالشعر استطيع الاستقواء على المرض وعلى الاحباط، رغم ان حالة كتابة القصيدة نفسها تسبب لي نوعا جديدا من الاحباط الشامل والذي يتبدد تدريجيا بعد كل انتصار لغوي او موسيقي او فكري صغير يتأتى لي اثناء الكتابة، وهذا واحد من اسرار اللحظة الشعرية المتقلبة بين حالين من اللذة والألم القصويين.
شاعرة.. تغلف كل ما تفعل بالشعر
يقول أستاذ الأدب في جامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا د.أيمن بكر:
سعدية شاعرة تغلف كل ما تفعل بالشعر، كأنها تعلق تعريفها لنفسها في كل لحظة.
الكتاب يبدأ بقصيدة، ومن اللافت أنها غير مذكورة في قائمة المحتويات، وكأن وجود القصيدة في بداية أي عمل فكري أو فني يحمل اسم سعدية مفرح، هو أمر بديهي، لا يحتاج لإشارة.
في ظهر الغلاف لم يقترن مع الأم وحدث موتها سوى القصيدة وفي حواراتها أعلنت للجميع أن القصيدة وطن.
تنتمي سعدية لأهم قيم الانسانية الراقية، العدالة وتتمثل في إصرار سعدية على حقوق المرأة.
الحرية في التعبير: متى كانت القصيدة تخضع لاشتراطات الدوائر الحكومية؟
رفض التصنيفات العنصرية: حتى إن بدت في ظاهرها لصالح قضية تنتمي لها سعدية، هي ترفض وصف البدون بأنهم أكثر إبداعا وكأنها ترفض مواجهة العنصرية بعنصرية مضادة لا تختلف عنها.
تقول اتبعيني يا غزالة، عالم خاص، عذرا.. لا أستطيع أن أتجاهل شعر سعدية الذي أراه ـ كما تراه هي ـ مركز نشاطها الإبداعي كله.
انظروا الى عالمها الخاص المنزعج عن الآخرين ومن صخب العالم:
أنا أيضا
لي مطاراتي السرية جدا
ولي محطاتي
التي لا يعرف مواعيد قطاراتها الكثيرة سواي
وأيضا طرق برية
سين.. الشهادات المورقة بالحب
تقول الكاتبة استبرق أحمد: سعدية مفرح، اسم سعيد، حظوظه في غابة الكتابة مضت لمقاصده، في ان يشكل عبور الشعر في مواسمه الطيبة الى القارئ المترصد لأشجار كلمة وارفة العمق والدلالة والتحولات.
لذا يخبرنا الكاتب الناقد فهد الهندال:
في شعرها، تشدك موسيقى الروح المحلقة في مجال الكون الفسيح، تشم عبير أزهار وطيب أشجار، شاهدة على غزل مدينتها الجميلة الأصيلة «الجهراء» لنسيم بحرها المجاور.
في شعرها تقرأ الضوء سطورا، وتسمع شدو هزيع الليل الأخير بصوت كلثومي مبهر، ساكن بأرواح آلاف المبدعين منذ فجر شعر الإنسانية، إنها الشاعرة الإنسانة سعدية مفرح.
سعدية مفرح، لمن تغرف من الماضي، تعزف الحاضر، تغني المستقبل، مرسلة، رفرفة العبارة، جريان الهواء بين ريش المعاني.
لذا يصدح عبدالله الفلاح معترفا: أعرفها أكثر من تجاهل بلادها لها وللصادقين على هذه الأرض.
أعرفها منذ «آخر الحالمين» ومازلت أردد معها: «تعذبني / كل التفاصيل التي / لم تغادر مرفأ الذاكرة.
أعرفها لأني أعرف ان من شابه قصيدته ما ظلم، وهي تشبه قصيدتها ومدينتي المهملة مثل أحلام البسطاء.
سعدية مفرح، اسم سعيد
أجدني مثل كل الأصدقاء الواردة شهاداتهم المبشرة، أشعر بضيق الوصف، وقلة القدرة لأن أكتب عنها، لكنني سأقتنص عناوين سماوات باهرة من موقعها الإلكتروني فأقول: ان من يلقاها يعرف دهشة الصحراء في بيت القصيد، غواية الكلام في فتنة الوصل ورسائل الغياب، فأعدوا لها ما استطعتم من ماء الحوار، في سيرتها الساطعة الموجزة والمؤجلة.