شافعي سلامة
«كنت عاشقا في قمة الخيبة، أتربع على عرشها كملك متوج للخسائر.. يحدث أنني أحببت المرأة الأكثر عذوبة، ويحدث أنها أحبتني يوما بجنون، ولكن لم يكن جنونها كافيا، لتقبل حياتي ـ كصحافي موت ـ كما كانت تلقبني دوما..
ولكني على يقين بأن حبها لي لم يكن كافيا.. وكم أحب فكرة أنها قد تكون سعيدة وهي بعيدة عني، متخلصة من هذا القلق الذي أسببه دائما لها..
المشكلة أني التهمت حبها كجائع أفريقي.. قدمت له وليمة «ديك رومي» في عيد الشكر، ما كنت لأكتفي كنت دائما أريدها أكثر..»
المشاهد لكل بقاع العالم هذه الأيام يتراءى له أن كل الشعوب صارت تعاني الأزمات والمجاعات والفتن والتطرف والإرهاب الأسود. أصبح الجميع يعاني جوعا من نوع ما، فمن جوعى البطون في أرجاء الأرض القاحلة إلى جوعى الأخلاق في زمن صارت فيه الأخلاق في أزمة، إلى اللاجئين الذين أصبحوا ملء السمع والبصر بأزماتهم الإنسانية إلى جوعى الحب. والصنف الأخير أكثر عددا وانتشارا مما قد يظن كثيرون.
فقد أصبح الحب والرومانسية عملة نادرة وطغت على المعاملات المادة والجشع ومشاعر أحالت حيواتنا إلى صحراء جرداء تخلو من جمال الزهور ناهيك عن اللون الأخضر لمشاعر المحبة التي تعين البشر على الحياة. تأتي رواية «فلتكوني بخير» للكاتبة أروى الوقيان في هذا السياق الجامد القاسي كزهرة وسط فلاة تنشر عطر الحب وتؤكد مبدأ التلاحم والوحدة ونبذ الفتن.
في الخط الرئيسي للرواية، الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون في 256 صفحة من القطع المتوسط، والذي يتم فيه التناوب في صوت الراوي بين البطل والبطلة، يظهر البطل الصحافي فارس بن عثمان والبطلة الاستاذة الجامعية ريم فيدخل كل واحد منهما إلى الحياة من مدخل مختلف، حيث تفرق بينهما اختلافات كثيرة في السمات الشخصية ووجهات النظر تجاه قضايا مختلفة فيما يجمعهما الحب. لكن هذا الحب لا يسير في مسار عادي فهي امرأة تحب الحياة وترعب من الموت وهو رجل يرصد المآسي والمجاعات ويؤمن بأن من يموتون موجودون بيننا بشكل أو آخر.. إن هذا الحب بينهما أزمة فراق لا تنتهي.
مما ينبئ بهذا الفراق ويعمقه بعض من التناقضات بين فارس وريم، ففي مرحلة مبكرة تتناول الرواية فلسفة الموت من وجهتي نظر مختلفتين البطلة ريم ترعبها الفكرة حيث فكرة لقاء من تحبها تصبح مستحيلة وهكذا فإن فكرة هذا «الغياب الجبري» ترعبها بشدة، أما البطل فارس فيؤمن بأن من يموتون يظلون موجودين معنا بطريقة أو بأخرى.
كذلك يشعر فارس بأن روحه تائهة وأنه في المكان والزمان غير المناسبين، كما لا يجد نفسه ينتمي إلى هذا المجتمع كأنه غريب في وطنه، كما يشعر أن المدينة التي يحيا فيها تخنقه بطبيعتها الاستهلاكية ومجمعاتها المليئة بالبشر الذين يأكلون ويتسوقون طوال الوقت، وما فيها من النميمة والثرثرة. فلا شيء يبهجه. أما ريم بعكسه فلا تنتمي سوى لهذا الوطن، فطوال سنوات دراستها رغم سعادتها الكبيرة بالاستقلالية والحرية الفكرية في الولايات المتحدة كانت دائما تشعر بحنين إلى الكويت.
بعد إبداء هذه الاختلافات وفي مشهد تختلط فيه الرومانسية بالمأساة يصارح البطل فارس د. ريم بحبه بشكل بدا متسرعا، فبينما كان الناس من حوله في الصومال يشعرون بجوع البطن في خضم المجاعة، كان هو جائع لوجوده وحبها، وكانت هذه المصارحة عبر رسالة تلفونية لكن الرد عليها كان كفيلا بأن يحبطه. لكنه نصيحته لها كانت «لا تخافي من الحب فهو ما تبقى لنا في هذا العالم البائس».
وبينما يداهمها الحب ويسيطر على جوارحها تراه حلم حياتها وبطلها «هكذا هو فارس.. يأتي بقوة ويرحل بسرعة.. يجعل هذا الكون يثور كبركان حب.. ويمضي، تاركا لي أمر إخماده، كيف سأنام الليلة؟!
لكن هذا الحب سرعان ما تشوبه شوائب القلق والبعد، حتى ان البطل والبطلة في أحد المشاهد يتبادلان الاتهامات بأي منهما يجيد فن الرحيل. وقد فاقمت المشكلة سفرات ورحلات البطل بحكم عمله الصحافي فهو يسافر إلى الصومال حيث المجاعة، ثم نرى معه في سفراته الأزمة في سورية واللجوء في لبنان، وزواج القاصرات في اليمن، فلسطين أرض الحب والحنين.
في خضم السفرات يحدث الجفاء حتى يصبح البعد أمرا واقعا ينجلي فقط من خلال لقاء في برلين، لكن للأسف يعرف فارس من خلاله أن ريم مخطوبة. بعد ذلك يسافر إلى جيبوتي ويكتب عن القات حيث كان هناك في رحلة برفقة غادة الراغبة في ممارسة العمل التطوعي والتي تمثل صوت الراوي في جزء من الرواية، يكتب عن عمل المرأة الجيبوتية ومجمع الرحمة العالمية أسطورة العطاء في هذا البلد المأزوم. ثم نراه في باكستان بمهمة في قلب الموت، وبيشاور حيث الجمال المشوه بالقنابل والمعبق بالموت مع وجود حركة طالبان.
بعد رحلة باكستان يظهر صوت الأم كنوع الحب الذي لا يضاهيه شيء ثم مباشرة يظهر حقد وكراهية المتطرفين المتمثل في داعش وليد هرب منهم قبل أني يقوم بعملية انتحارية وبعدها تسيطر على فارس حالة من الكآبة تنسيه أمورا كثيرة لكن حبه لريم لايزال ينبض في قلبه.
يرحل بعد ذلك إلى سريلانكا حيث السلام الداخلي، وبعدها يزور مخيم الزرقاء بالأردن لتغطية تجهيزات الكويت للاجئين قبيل رمضان. كل هذا وصورة ريم لا تفارق مخيلته حتى يخاطب طيفها ويتمنى أن تشاركه لحظة التكريم بجائزة حرية الصحافة التي يتسلمها في نيويورك.
في نهاية الرواية وبعد أن يكتب فارس عن وليد الذي هرب من خلية داعش قبل أن ينفذ عملية انتحارية، يتجلى مشهد حادثة تفجير مسجد الصادق بما فيها من مرارة ومأساوية ولكنها في الوقت نفسه كشفت عن تلاحم الكويتيين، ثم حادثة إرهابية أخرى في تونس وكأن الدنيا أصبحت على جمرة من الإرهاب الأسود، لكن الخير موجود وغالب والأمل يترعرع كما الوردة التي حملها فارس ليضعها في موقع التفجير ترحما على الشهداء، فكانت النتيجة أن قابل حب العمر ريم، لكن المفارقة الملازمة لألم الفراق أنها تزوجت وأنجبت ولدا اسمه «فارس» واستشهد زوجها في التفجير.. وهنا تلفت نظره وتسأله لأنه لم يسألها أبدا عن مذهبها.
مفارقة أخرى تواجه ريم هي أن الموت أدرك زوجها في بيت الله ولم يقربه وهو من هو حيث يحوم حوله طوال الوقت في سفراته ومغامراته الصحافية. لتنتهي الرواية ببكاء الحبيبين بعد أن فرقت بينهما الظروف، فلتكوني بخير ولو لم يجمعنا الحب.
الرواية في زمن وسائل التواصل
تلمس خلال الرواية واقعية ومواكبة للعصر حتى أنك تشعر وكأنك تهم بالبحث عن حساب فارس بن عثمان على تويتر وانستغرام لتشاهد صوره وتحقيقاته الصحافية وكذلك د. ريم. كذلك تصادفنا فيها أحداث وشخصيات حقيقية، حتى يجد المرء نفسه يكاد يبحث على الإنترنت عن كتابات فارس بن عثمان وتغطياته الصحافية.
من الرواية
عيناك سحر يجب أن يخالف القانون من يطيل النظر إليهما
عندما أرحل.. يرهقني هذا الشعور الملح بأني مفارق أفضل ما حدث لي في حياتي على الإطلاق!.. أشتاق إليك وأنا في حضرة وداعك.. فلتكوني بخير يا أنيقة..
هنيئا لك سيدتي دخلت قلبي دون أن تخرجي.. هنيئا لك النسيان وهنيئا لي بالألم
«كانت بسيطة بشكل أنيق ساحر.. لطالما كرهت النساء اللاتي يبالغن بلباسهن ومكياجهن»