اليوم الأربعاء.. الساعة تشير إلى السابعة مساء.. وأنا كالعادة جالس أمام شاشة التلفاز أقوم بمحاولات عدة عقيمة لإيجاد قناة شعرية شعبية تقدم ما يستحق المتابعة شعرا وأدبا، وأثناء عملية البحث وقف أمام الشاشة أخي خالد وكأنه أشفق على حالي قائلا: ما رأيك في الذهاب إلى أمسية شعرية هذا المساء؟ فنظرت إليه مبتسما وقلت: أهي دعابة؟ فقال: لا يا عزيزي.
ليقطع حديثنا أشقائي الصغار وهم يشتكون من الملل ويرغبون في تمضية هذا المساء في الخارج وقضاء وقت ممتع، فقلت لهم: ما رأيكم في الذهاب إلى خيمة السيرك؟ فإذا بخالد يقول: وماذا عن الأمسية الشعرية يا فيصل؟ فأفاجأ بالإجابة تخرج من بين أشقائي الصغار وبصوت واحد: نعم.. نعم.. لنذهب إلى الأمسية الشعرية فهي أكثر متعة ومرحا من خيمة السيرك فما كان مني إلا أن انفجرت ضاحكا وقلت: جميلة هذه الدعابة.. ليجيبوا: ولكن هي ليست دعابة، فعلا هي ليست دعابة، ففي السابق حينما يعانق مسامعنا مسمى «أمسية شعرية» نهيم بخيالنا نحو عالم خاص، نحو قاعة ساحرة ومنصة رائعة وكراسي مريحة على أمل قضاء أمسية ممتعة وشيقة نهرب لاحضانها من متاعب الحياة، فبالنسبة لنا كانت الأمسية الحقيقية وما تجود به من شعر عالم آخر لا يفصل بيننا وبين المنصة التي يعتليها الشاعر كفارس شجاع سوى مئات الحشود من المتابعين وهذا فاصل مادي لا معنوي وذلك لأننا كنا نستمتع حينما نعانق النص سواء كان دينيا أو اجتماعيا أو وجدانيا... إلخ، فجميع التوجهات تخدم بعضها البعض وليس منها ما ينطلق وحده، ففي السابق كان الهدف المنشود هو رؤية شاعر لا يلتفت لصغائر الأمور ولا يلهث خلف البهرجة والتسلية والتصفيق والتصفير وما يتبعه من حذف للعقل والمسابيح والسراويل.
المتلقي العاقل، أكرر العاقل، يرغب في أن يشاطر الشاعر أفكاره وتجاربه ويستمتع بأصالة التفكير وجودة التعبير وينساب رويدا رويدا مع الأحداث المترابطة واللغة الحسية الفارطة.
أما الآن.. فالغالبية العظمى من الأمسيات تتميز بطقوس غريبة وشطحات عجيبة وتجاوزات واضحة لحدود الأدب والذوق، ولا ننسى الفواصل الغنائية من بعض الشعراء وغزل خايب من شايب عايب.. وآخر «يشفط بقدميه» على المسرح معتقدا أنه «مايكل شوماخر» في حلبة الفورمولا وان لسباق السيارات، وفي المقابل اختلط الحابل بالنابل والمتلقي تتقاذفه المفاجآت كريشة في مهب الريح، أما كان من الأحرى أن يلم الشاعر إلماما كافيا بالشعر وفنونه، أما كان من الأحرى أن يتعرف على تاريخ الشعر وآدابه وعمق أصالته؟! فتاريخ الشعر مرجع زاخر بالفائدة للجميع فلا شك أن الشاعر بحاجة ماسة إلى الثقافة الشعرية التي تؤهله ليصبح شاعرا جيدا يعرف كيف يدير الأمسية الشعرية من الجانبين الأخلاقي والأدبي، فهو كقائد الأوركسترا الذي يوجه مفرداته لعزف ودندنة أجمل الأبيات وأعذب الكلمات فلو نظرنا لمن تربوا في أحضان الشعر وكيف كانوا يكتبون ليعبروا عما يدور في خواطرهم لوجدنا أنهم كانوا حريصين على ما تخطه أقلامهم وما تنهل به مواردهم، فالشعر بالنسبة لهم أدب وخلق وهو الوسيلة الرائعة التي يعبر بها الإنسان عما يدور في داخله فقيرا كان أم غنيا، صغيرا كان أم كبيرا، كلاهما كان يجد ضالته في الشعر ليطلق العنان لمشاعره الدفينة لتحكي حاله وتبيح محظوراته، فحينما يعانق المتلقي هذا الجمال تنجذب جوارحه نحو عذوبة الاحساس ورقة المشاعر والأفكار والصور الجمالية، لكن يا ترى هل تعتقد أن المتلقي سوف ينجذب نحو مهرج يقف على المسرح؟! إن كنت أبحث عن ذلك فسوف أذهب إلى خيمة السيرك وليس لأمسية شعرية أم أن القدر كتب علينا رؤية «الأرجوزات» في السيرك والمسرح والأمسية وكل مكان، فما كان مني في نهاية المطاف إلا أن أعتذر من أشقائي عن الخروج في هذا المساء لأعاود محاولاتي اليائسة في البحث عن قناة تخدم الأدب والموروث.
ومضة: ربما أن تلك الفئة هي القادرة على انجاح أشباه الأمسيات الشعرية وجذب الجماهير كما أفتى أحد معدي هذه الأمسية.
بقلم: فيصل الرحيل [email protected]