لم تعد البيئة الشعرية ـ الخليجية منها على وجه الخصوص ـ مغرية للجيل القادم من الشباب، على اعتبار أنها أصبحت في معزل تام عن البوح الشبابي والهم الإصلاحي (الحلم)، ليس لطغيان المادة دور في ذلك فحسب، بل ان هناك انصراف تام عن الكتابة الثورية التي تتكلم بلسان ابن المجتمعات الكادحة، وهذا يعود بالتأكيد لنذير الخطر الذي يهدد الشاعر الإنسان ويحاول إقصاءه وتجريده من إنسانيته بإبعاده عن قراءة الشارع والبوح بمشاعره التي تختلج في صدره، ولعل هذا الخطر المحدق بشعرائنا سببه الأرضية الهشة التي استند إليها الشعر السياسي ذو الطابع الثوري، فحين تقوم الأحزاب السياسية والسلطات بإقصاء ونفي النماذج المشرقة لهذا النوع من الطرح وعلى رأسهم أحمد مطر ومظفر النواب ومحمد مهدي الجواهري وعبدالرحمن منيف، يساهم المجتمع الشعبي الخليجي بدوره في تكريس مفهوم الغربة والنفي لمثل هؤلاء الذين يتحدثون بلسان الشعوب الكادحة الناقمة على واقعها التعيس، فالهم الذي يسكن «سليمان المانع» في فترة سابقة لم يكتب له الموت إلا بفعل (المنغصات) الاجتماعية والتدخل السلطوي، إلى جانب الاستسلام لنظرة القبيلة الضيقة، والدخول في تعقيدات ومعتركات أضاقت الخناق عن الهم الإنساني الذي يسكنه لتزيحه جانبا وتبعده عن الحديث بلسان مجتمعه حتى لو انتهت معاناته الشخصية، لتشترك السلطة مع المجتمع في ذوبان مثل هذه التجربة الفريدة في المشهد الشعبي، والحال ذاته ينطبق على تجربة خالد الردادي وعبدالمجيد الزهراني مع اختلاف (المنغصات).
وفي زمن كثرة الشعر وتعدد سلوكياته وقنواته، يظهر لنا جيل شعري رائع غارق في الإنسانية ومبحر في الجمال، إلا أن المجتمع يعود ليواصل تدخله القوي وممارسة سطوته وقسوته حتى على هذا الجيل الشاعري المنفتح الذي يفكر يمنة ويسرة دون كلل أو ملل باحثا عن هم الشارع وكدح الحياة ليلتقط بكاميرا الروح أبرز الزوايا الإنسانية الغائبة. يتدخل المجتمع هذه المرة بطريقة مختلفة تماما، حيث ان الترسبات قادت هؤلاء الشباب ليطلقوا على أنفسهم مسمى «الصعاليك»، إيمانا منهم برفض المجتمع الشعبي لهم، وانصراف النخبة المثقفة عنهم على اعتبار أن الأدب الشعبي محكوم عليه بالإعدام.
بودي أن يخرج لنا شاعر شاب من أعلى المنابر الشعبية ليصدح بهمه الإنساني دون وصاية من أحد، ويغرد بلحن الحرية، ويضع حدا لاختفاء الشعر الإنساني وانطوائه خلف الكراديب، ليزيد من مساحة صوته الخافت.. فقد مللنا شعر الفضائيات المكرر حد الإزعاج.. وتعبنا من الركض خلف المقاطع الصوتية في الخفاء على الرغم من أنها تحمل شعرا حقيقيا أقرب للإنسانية من أي شيء آخر.
أعود لأقول وأؤكد أن هذه الأجواء غير مشجعة لرؤية تجارب شعرية تبقى زمنا طويلا، فمتى كان الشعر الإنساني محكوما عليه بالإقصاء فإن الشباب سينصرف لأمور أخرى تقربهم للإنسانية ومحيطهم الاجتماعي من زاويته المعاشة وليست من تلك الزاوية الأفلاطونية غير الواقعية.
كل ما أخشاه أن يتكرر إقصاء النماذج الرائعة.. ويتكرر معه السكوت والتزام الصمت دون فتح باب للهجرة وتنفس لهواء الحرية.. فالشعر يجب أن يعيش حتى لو كان على حساب الوطن.