محمد مهاوش الظفيري
أثقلتنا «قصيدة كيبوردية» هذه التي نراها مكتوبة في كل منتدى من منتديات الشبكة العنكبوتية كلما أمر على هذه التسمية أتجاوز النص، لأن صاحبه غير جاد فيما يقول، وغير متحمس لما يكتب. اذا لم تكن هناك علاقة حميمية بين المرء والقلم، ولم يشم الشاعر او الكاتب رائحة الورق الذي يكتب عليه، ولم تتكحل عيونه برؤية السطور البيضاء وهي تكتسي باللون الازرق، فلن يكون المرء كاتبا مميزا او شاعرا يقدم قصائد ذات قيمة أدبية، لأن في عملية الشطب لبعض ما نقول، نكهة قد لا نشعر بها في ساعتها، ففي الشطب روح مزهقة وعوالم هدمت بعد اشادتها على الورق بالحبر والأنامل، فعندما نعود لقراءة ما شطبناه، ندرك اي ذنب اقترفناه وأي ظلم جنيناه على انفسنا وعلى نتاجنا، وقد يعود المرء للتفكير فيما شطب، او يكون الشيء المشطوب محفزا للكتابة مرة اخرى، ولو بطريقة مختلفة كالانتقال من الشعر الى النثر، او من كتابة المقال الى ابداع قصيدة.
الكتابة طقس روحاني وملكوت سماوي لا يمكن تصوره او تخيله او وصفه، ويكفينا ان نقول عنها انها شعور لا يمكن وصفه، فعلى الرغم من فضفاضية هذه الكلمة وبساطتها، الا انها خير دليل على مدى الحيرة التي يشعر بها الانسان في امكانية وصف هذه الحالة.
الكتابة تمرين، ومران، ورياضة.
تمرين للنفس على الصبر، ومران للفكر على البحث والتنقيب، ورياضة وقتية لابد من ممارستها، وتعويد النفس عليها، وترويض الفكر لها، وبذل الطاقات من أجل خدمتها، والتفاني في سبيل المحافظة عليها وتطويرها. الكتابة النثرية ليست وحيا شعريا ننتظر هطوله من ملكوت اللاوعي، حتى نستطيع الكتابة، انها سلوك لابد ان نعود انفسنا على فعله، على الأقل ساعة او ساعتين في اليوم او بعض الايام في الاسبوع الواحد، اذا اردنا ان يحترمنا الآخرون ويقدرون لنا نتاجنا الذي نكتبه. حجة الانشغال او الشعور بالملل او الاحساس بالفراغ من اللاشيء أو الشعور باللاشيء في زمن الفراغ، وصعوبة تنظيم الوقت او تحديد الاولويات، ما هي الا أكذوبة نضحك بها على أنفسنا، ولا يمكن ان يكون هناك انشغال وفوضى، ان كان لدينا استعداد للتنظيم وتصميم على العمل، فالتنظيم غذاء الارادة والعمل روح الحياة.
الكتابة طريق كلما مشينا عليه تمدد، وهواء نقي كلما تنفسناه تجدد. الكتابة سفر بالذاكرة الى ما وراء الذاكرة، ورحلة الى اللاوعي بطريقة واعية.
الكتابة ليست مجرد الامساك بالقلم او العمل على ملء المساحات البيضاء باللون الازرق، وان كان ذلك على حساب المضمون والفكرة. انها علاقة حميمية مع الذات، وسفر بها على بساط الريح الى عوالم سندبادية بطرق شتى كالشعر والخاطرة والمقال، وكل ما عداها من أجناس الكتابة الأدبية الاخرى.
ان هذا الهاجس يمر بنا من الكتابة النثرية التي تعتمد على تسلسل الأفكار او تعدد النقاط، والنقاش التفصيلي للأشياء، والذي يتطلب منا رياضة ومران وتمرين، كما اوضحنا سابقا، فكيف يكون الحال مع الشعر الذي لا يزورنا متى أردنا، ولا يأتينا متى نشاء، وانما يزور في الوقت الذي يريد، ويأتي متى يشاء، وفي الوقت الذي يشاء، دون تحديد موعد او انذار مسبق، ليطالبنا بالكتابة له ما يشاء دون تصرف او تحكم منا، ثم يغادرنا ويمضي الى حال سبيله، ليتركنا في دوامة بعده، ندور فيها كالطاحونة الهوائية محاولين تنظيم ذلك الركام البنائي الذي شيد على الورق في التحدي الأزلي مع الصنعة الأدبية التي من خلالها نستطيع الفصل بين الشعراء، ونميز بين قدراتهم الفنية وطاقاتهم الابداعية، بعد ان يمضي ذلك الهاجس الى عالم المجهول الذي جاء منه.
نعم، بعد الانتهاء من هذا الهطول الشعري، ووضع كل شيء اوزاره يأتي دور الصناعة والمهارة والقدرة على منح هذا النص او ذاك الحياة والحركة، بعدها يبدأ دور القدرة والتفوق، يأتي هذا الدور الذي نستطيع التفريق فيه بين الشاعر المبدع والشاعر العادي البسيط، بين الشاعر القادر على التفوق الابداعي، وبين الشاعر الذي يدور في حلقات مفرغة حول نفسه دون ان يتعداها قيد أنملة.
يسر البث المباشر وكذلك الانترنت علينا الحصول على المعلومة الجاهزة والخبر السريع، لكنهما لم ولن يصنعا منا مثقفين ما لم ندفن وجوهنا بين صفحات الكتب، ونلقي برحالنا بين دفتي كتاب نستريح فيه من عناء الطريق، وكذلك الكيبورد سهل لنا الطباعة، ومنحنا مهارة الكتابة السريعة والتواصل مع الآخرين البعيدين عنا، غير ان الورق والقلم لا يمكن مقاومة سحرهما الفاتن، بهما يمكننا الشطب والتعديل، اما المسح على الكيبورد، يقضي على مشاعرنا وأفكارنا التي سكبناها على شاشة الجهاز. الكتابة على الكيبورد انتحار للشعر وقتل للشاعرية، وأجمل ما في الكتابة بالقلم والورقة، هي الانتقال من حالة الى حالة، ومن الجلوس على المقعد الى التربع على الارض، او الاستلقاء فوق السرير او افتراش الأرض تسلقيا وانبطاحا، او التقلب على الموكيت او السجاد المبسوط على الأرض، او التجوال بين اسياب المنزل ودخول اكثر من غرفة والخروج منها دون سبب، لاقتناص لحظة عابرة في نسيج الزمن او اصطياد فكرة او مشهد مر عبر شريط الذاكرة، وهذه الاجواء الكتابية لا يمكن توافرها، عندما يتجمد المرء كالآلة البخارية أمام شاشة الكمبيوتر.
صفحة الواحة في ملف ( pdf )