الأشعار التي نقرؤها كثيرة، ولكن الذي نحتفظ به في مخزون الذاكرة منها أقل من القليل.
ان الشعر ليس كلاما موزونا مقفى كما تذكر ذلك الكتب القديمة، أو الذين لا يعرفون من الشعر إلا الأحجام والأشكال.
إنما هو كما يقول الجاحظ «ضرب من الصياغة والتصوير» وقد تطور مفهوم الشعر عما قال الجاحظ وصار محاولة للبحث والتجلي واكتشاف الحاضر وهضم الماضي والقدرة على استشراف المستقبل.
انه باختصار شديد جس نبض الانسان والتجربة الذاتية.
يقول سعد الحريص:
ليت حزني مثل حزن البشر واكتبه
وليت دمعي مثل دمع العيون ويسيل
ان هذه الكلمات احتوت على ما قلناه عن الشعر كما هو الحال عند شعراء آخرين كفهد عافت والحميدي الثقفي ونايف صقر وغيرهم الذين احتوت أشعارهم هذا المفهوم.
وبعضها تجاوز هذا الفهم الى هضم المعاناة الإنسانية، غير ان هذا البيت له خصوصية واضحة - على الأقل عندي وأنا أمسك هذه اللحظة بالقلم:
أشعر أني ردي خط وردي تجربة
واشعر اني على بعض المشاعر بخيل
إعجابي بما يكتب هذا الرجل واضح وجلي كذلك انا معجب بكل شعر جميل رائع متعدد الأبعاد، بإمكان المرء ان يراه من زوايا متعددة.
لا أريد ان اتحدث عن الاستعارة أو التشبيه أو الكناية في البيتين السابقين، لكن سأتكلم عنهما من خلال الصورة الشعرية الممتدة التي كلما نصل الى نقطة من نقاطها المتعددة تتفجر أمامنا المعاني، وهذا المفهوم يكون صادق الوضوح في كثير من قصائد مسفر الدوسري، غير ان هذين البيتين بحاجة الى كشف لبعض الأسرار الإنسانية فيهما:
يبدأ المشهد بالمتنى الدال على استشراء حالة الضعف، لكنه ضعف من نوع آخر، انه ضعف استبدادي أي محاولة للوصول الى منطق القوة في هذا الجو المشبع بالهزيمة، ان الحزن الذي سيطر على الشاعر لعله حزن بسيط أو أقل من المعقول - غير ان نفسية الشاعر الراغبة في الاستبداد بدأت تصور له الأمور على غير طبيعتها، لذلك تمنى كتابة حزنه أي احتوائه، والكتابة عن الشيء جزء من احتوائه كما ان البكاء وذرف الدموع دلالة على التخلص من الحزن والهموم، والأشياء عندما تكون مكبوتة تكون قابليتها للانفجار أقوى، ومن ثم يكون بعد ذلك التلاشي والذوبان في جزئيات الهواء أقوى من مجرد الصراخ والعويل.
أمام هذا الموقف الانهزامي يبدأ المرء يتصور نفسه كالمنهزم المحطم، لذلك يتخيل أن الجميع أعداؤه، حتى لو كان غير معروف في المجتمع، لكن النفسية البشرية دائما أو غالبا تصور الأشياء على غير طبيعتها، وعند الشعراء على وجه الخصوص.
أمام هذا الموقف، وهو حزن الشاعر، يتصور أنه «ردي حظ» وأمام عدم القدرة على التعبير يتصور أنه «ردي تجربة» وأمام عدم القدرة على البكاء يتصور أنه بخيل حتى في البكاء على نفسه أو العويل عليها حتى بمجرد الهمهمة في البكاء.
ان هذين البيتين متوازيان في المعنى بشكل يجعلنا نظن ان الشاعر كان لديه تصور مسبق عما سيقوله قبل ان تخطر هذه الكلمات في مخيلته، رغم ان هذا الظن يضعف من حقيقة الشعر، لا أدري كيف جاءني هذا الهاجس الظني، وحتى يكون هذا الاعتقاد له مبرر لابد من إيراد هذه الأمثال المأخوذة من كلام الشاعر.
ليت حزني مثل حزن البشر يقابلها
أشعـر انــي ردي حــظ
واكـتـبـه يقــابلـهـا
ردي تجـربة
ليت دمعي مثل دمع العيون ويسيل يقابلها
واشعر انـي على بعـض المشاعر بخـيل
يسيل يقــابلها
بخـيـل
ان القصيدة لدى الشاعر بمنزلة الرئة التي يتنفس بها، والمتنفس الوحيد الذي يطل من خلاله على العالم، والمرآة التي تعكس وجهه لمن سواه، لهذا كان الشعر عند سعد الحريّص، ومن وافقه من الشعراء، هو المحرك الأساس في تعاطيه مع الكلمة الصادقة المعبرة.
محمد مهاوش الظفيري
صفحة الواحة في ملف ( pdf )